تصور انك تصحى الصبح.. تقف قدام المراية.. تلاقى فجأة شكلك مش هو شكلك.. جسمك مش هو اللى انت تعرفه.. وزنك وحجمك وأبعادك غير اللى انت حافظهم بالمللى..
تصور حاجة أصعب..
ان كل ده مايحصلش فجأة.. لأ.. يحصل حبة حبة كل يوم.. وكأن خلايا جسمك وأجزاءه بتدوب.. وكأن حدوده بتسيل وتتساقط.. وكأن معالمه بتفقد معالمها بالتدريج..
نجيب الحكاية من الأول..
دراسات وأبحاث علمية كتير اتكلمت مؤخراً عن اكتئاب ما بعد جراحات السمنة (تكميم المعدة- بالون المعدة- تحويل مسار المعدة).. أحد هذه الدراسات وجدت انه على الأقل تلت الناس اللى بيعملوا هذه الجراحات وهما معندهومش اكتئاب قبل العملية.. بيجيلهم أعراض اكتئاب اكلينيكى بعد العملية.. دراسة أخرى وجدت إن معدلات الانتحار بين من يخضعوا لهذا النوع من العمليات هو خمس أضعاف معدل الانتحار المعروف بين البشر.
السؤال الغريب هنا.. هو ليه الناس اللى بتعمل عملية المفروض انها عاوزاها ومستنياها وحاطة عليها أمل كبير في انقاص الوزن وتحسين الشكل.. ليه لما يعملوا العملية يدخلوا في اكتئاب؟ وبعضهم كمان يقدم على الانتحار؟
روح الأول اعمل كوباية شاى سخنة وتعالى..
علشان الكلام الجاى مؤلم حد الصقيع..
أولاً.. كتير -بل معظم- اللى بيخضعوا لجراحات السمنة مش بياخدوا بالهم ولا بيسألوا نفسهم: هو ايه الوظيفة اللى الأكل الكتير كان بيؤديها ليا؟ طيب وبعد ما أعمل العملية.. إيه البديل اللى هايؤدى الوظيفة دى؟ إيه اللى هايحل محله؟
الأكل ليه وظائف عضوية نعرفها كلنا: التغذية والنمو وامدادنا بالمواد الهامة لبناء جسمنا والحفاظ على صحتنا.. لكن الأكل كمان ليه وظايف نفسية مهمة جدا.. احنا بنتبسط بالأكل.. بنستمتع بالتذوق.. بنجتمع ونحتفل ونخرج ونتعزم حوالين الأكل.. مش بس كده.. عند بعض الناس الأكل بيكون وسيلة للتعامل مع الضغط النفسي.. طريقة لتخفيف التوتر.. مسكن لمشاعر الحزن.. خط دفاع أول وسريع ضد ألم الهجر والبعد والفقد..
نعمل العملية.. نتبسط شوية.. ونلتزم بالتعليمات.. أكل قليل. مواعيد محددة.. وعند أول نوبة حزن.. أو أول هجمة توتر.. أو بعد.. أو فقد.. نلاقى نفسنا عُزل بدون السلاح اللى اتعودنا نستخدمه.. وبدون المسكن اللى ماكناش نعرف غيره..
علشان كده.. مهم جداً جداً.. قبل ما نقدم على أي جراحة من جراحات السمنة.. نشوف إيه الوظيفة النفسية للأكل الزيادة اللى كنا بناكله؟ كنا بنستخدمه ك (إيه)؟ مسكن؟ مخدر؟ صديق؟ حبيب؟ آه والله.. الأكل عند كتير من الناس صديق الوحدة.. وحبيب الأيام الصعبة.. وونيس الضيق والوحشة..
وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة ان الأكل هو اللى يؤدى الوظائف دى.. لكن مهم لأقصى درجة إننا نعرف إيه هي الوظيفة أو الوظايف؟ ونشوف هانعمل فيها إيه؟ ومين هايؤديها مكانه؟ وازاى؟ وامتى؟ ونبقى جاهزين.. بدل ما نلاقى نفسنا في معركة حامية بدون اى خط دفاع.. ولو واه.. أو ضعيف..
ثانياً. فيه حاجة اسمها الbody image.. يعنى انا استقبالى لجسمى عامل ازاى؟ عقلى شايف جسمى بأى شكل؟ صورتى في مرآتى الداخلية (والخارجية طبعاً) شكلها إيه؟
كل حد فينا عنده body image لنفسه.. مطبوع في مخيلته وثابت ومستقر بشكل ما.. برضه بغض النظر عن مدى صحته أو مطابقته للواقع والحقيقة (لانه أحياناً بيختلف اختلاف شاسع عن الواقع)..
اللى بيحصل بعد جراحات السمنة، ان شكل وحجم وأبعاد الجسم بتبدأ تتغير وتختلف لدرجة تخلى العقل أحياناً يتلخبط.. والعين تتصدم.. وأحياناً النفس تكتئب..
بس ده بيحصل مع اى طريقة لتقليل الوزن يا دكتور؟ اللى بيمشى على نظام غذائى بيحصل معاه كده.. اللى بيمشى او يلعب رياضة علشان يخس بيحصل معاه كده..
طبعاً مفهوم.. بس احنا هنا بنتكلم عن طريقة ضخمة وكبيرة massive.. طريقة بتجتاح الجسم اجتياحاً invasive.. بتخترقه وتستأصله..
فيه دراسة اتنشرت سنة 2018 لقيت ان شكل الوجه بعد جراحات السمنة بيكبر في المتوسط حوالى 4 سنوات عما كان عليه قبل الجراحة.. بيسموه Facial aging.. بالإضفة لاختلاف نسبة الجلد إلى حجم الجسم الجديد..
انت بعد هذه الجراحة بتبقى زى اللى عمل عملية بتر/استئصال لأحد أعضاؤه؟ محتاج تتأقلم وتتعايش مع جسمك الجديد..
ثالثاً.. بعد بعض الأحداث الكبيرة في حياتنا.. بيحصل عند كتير مننا ما يسمى بالenduring personality change.. أو (تغير دائم في الشخصية).. بعض اللى بيمر بظروف مرضية (خاصة المزمنة) أو نفسية صعبة.. بعض اللى بيهاجر أو بيسافر.. بعض اللى بيتعرض لحادث أو مصاب جلل.. تركيبتنا النفسية بتتفكك بدرجات متفاوتة.. ويعاد تركيبها بشكل مختلف عما كانت عليه.. ناس بتتغير للأحسن.. وناس تتغير للأسوأ..
كتير من اللى بيخضع لجراحات السمنة بيحصله كده.. مش بس جسمه اللى بيتغير.. لأ.. شخصيته وطباعه كمان بتتغير.. سلوكه ممكن يتغير.. قدرته على التحمل والصبر تتغير.. ميله للانطوائية أو الاجتماعية تتغير.. علاقته بالحياة وبنفسه وبالآخرين تتغير.. وكل ده إما للأحسن.. أو للأسوأ.. على حسب متغيرات كتير جداً..
فيه ناس بتتغير مع أهلها.. وناس بتتغير مع أصحابها.. وناس بتتغير مع أقرب الأقربين..
هو فعلاً بيبقى شخص جديد.. غير اللى هو نفسه كان يعرفه..
رابعاً.. بعض المصابين بزيادة الوزن بيكون زيادة وزنهم أحد أعراض اكتئاب مصابين بيه من قبل العملية.. الشهية للأكل بتزيد مع بعض أنواع الاكتئاب.. ومعاها الوزن.. يدخل المريض حجرة العمليات وهو متصور إن نقصان الوزن هايساعده في علاج الاكتئاب.. لكنه مايعرفش ان الحسبة دى خاطئة وغير صحيحة.. وان علاج الاكتئاب هو اللى ممكن يخفف الوزن.. لكن مش العكس.. يفاجئ بعد العملية إن الحال النفسي بقى كما هو عليه.. فيكتئب أكتر..
خامساً.. بعض المصابين بشره الأكل.. والنهم الزائد للغذاء.. بيكونوا برضه متصورين إن خضوعهم للعملية هايعالج هذا الشره أو النهم المرضى.. لكن الحقيقة إن الجراحة مش بتعالج ولا هاتعالج ده.. خاصة لما يكون السبب الأساسي نفسي.. أوهورومونى.. أو أي سبب بيولوجى آخر..
يلاقوا نهمهم لم يتغير.. واحتياجهم الزائد كما هو.. وده يوصلهم لأحد أبشع صور الاكتئاب..
سادساً.. فى الحالات دى وفى بعض الحالات غيرها.. الأكل بيكون زى الإدمان.. ادمان بالظبط.. وبعد العملية.. وعلشان الإدمان ده نفسه ماتعالجش.. يتحول المريض لأى نوع من الإدمانات الأخرى.. يعنى يروح من ادمان الأكل لإدمان الجنس.. او ينتقل من ادمان الأكل لإدمان الانترنت.. أو ادمان العلاقات السانة.. أو أحيانأ ادمان المخدرات.. ومافيش حاجة اتحلت.. والأصل كما هو.. والتركيبة النفسية لم تتغير بتغير الوعاء الجسدى الخارجى.. وتتعقد الأمور أكثر.. و… اكتئاب..
خلصت كوباية الشاي؟
طيب كمل..
سابعاً.. بعض من يعانون من زيادة الوزن وصلهم من عائلاتهم وأصدقائهم ومعارفهم والناس الى في الشارع إنهم مش مقبولين كما هم.. انهم فيهم حاجة مختلفة.. انهم محتاجين يغيروا حاجة في نفسهم.. في جسمهم.. علشان يتقبلوا..
تمام.. نعمل العملية ونخس ونتغير علشان نتقبل..
يفاجئوا ان موقف كتير من الآخرين لم يتغير.. وان المشكلة الحقيقة كانت عند هؤلاء (الآخرين) مش عندهم.. وانهم مهما غيروا في نفسهم أو جسمهم أو أي حاجة تانية، فموقف غيرهم منهم سيظل كما هو.. وربما أسوأ.. فيكتئبوا..
ثامناً.. بيفاجئ كتير من اللى بيخضعوا للعمليات دى بكمية التعليمات والاحتياطات والالتزامات اللى مطلوب ينفذوها.. والأدوية اللى مفروض ياخدوها.. والكميات الجديدة.. والنظام الدقيق.. و.. اكتئاب غير منتظر وغير متوقع..
تاسعاً.. المضاعفات اللى بتحصل أحياناً.. واللى قد تتطلب عملية أو عدة عمليات تانية..
عاشراَ.. فيه ناس بعد ما تعمل العملية.. مش بتخس ولا وزنها بيقل.. وبيرجعوا لعاداتهم القديمة قبل العملية كما هى.. وكأن شيئاَ.. لم يكن..
هل الكلام ده معناه تنفير الناس المحتاجين هذا النوع من العمليات وصدهم عنها..
لأ طبعا.. خالص..
وده برضه مش تعميم لكل اللى بيعمل العمليات دى.. فيه ناس كتير بيبقوا أحسن نفسياً وجسدياً وكل حاجة..
بس الكلام ده معناه.. ان قرار الخضوع لعملية جراحية للسمنة قرار مهم حسابه بدقة شديدة.. وانه مايكونش بأى حال من الأحوال الاختيار الأول والأسهل..
وانه مهم معرفة ودراسة الطرق الأبسط والأكثر مناسبة لكل حالة على حدة..
وان الموضوع مش جسمانى بس.. الموضوع جسمانى.. ونفسي.. وعقلى.. وروحى..
وان التعامل مع الجسد محتاج حكمة.. وبصيرة.. ورحمة.. وصبر.. وحب.. وقبول..
تعاملك مع جسمك..
محتاج حكمة.. وبصيرة.. ورحمة.. وصبر.. وحب.. وقبول..
وانك لو ماقبلتهوش كما هو قبل وأثناء وبعد كل شيء.. فهو مش هايطاوعك.. ومش هايسمع كلامك..
هايعاندك.. ويقلق منامك..
ويمكن يغضب منك.. وقد ينتقم..
وممكن يخونك..
وربما يرحمك.. أو لا يرحمك..
خصت الشاى؟
بالهنا والشفا.
د. محمــد طــه