محتاجه رأى حضرتك..
أنا ابتديت فى قرايه كتاب «ذكر شرقى منقرض».. ولقيته فعلا بيوصف الواقع اللى احنا فيه.. إيه رأى حضرتك فى بنت ليها نفس شخصيه «عزيز» اللى حضرتك حكيت عنها.. بس بدل «عزيز» هى بنت بكل حاجه حضرتك كاتبها.
مابتعرفش تقول لا، مع إنها على مشارف الـ٢٩.. بتسمع كلام أمها فى كل حاجة بشكل ماحى شخصيتها.. مش بتقول غير حاضر وطيب.. لدرجة إن أخوها بينتقدها لخوفها من كلمه «لا»..
مش بتشتغل من خوفها إنها حتى تشوف حياتها.. قاعده فى البيت بتشوف الحياة من منظور ضيق جدا..
ومع ذلك المستوى المادى كويس الحمدلله.. وزى مابيقولوا اللى بتحلم بيه تلاقيه بيتجاب..
بس إنها تطلع وتشوف الدنيا وتخرج، أمها تقولها «لا».. «مع مين؟».. و«هتروحوا فين؟».. و«هتيحى إمتى».. حتى مكالمة التليفون: «كنتى بتكلمى مين؟.. و«ليه».. و«عايزين منك إيه؟».
وعلى الرغم من كل ده برضه فيه حنيه من ناحية الأم.
أنا عارفة إنه كلام متلخبط ومتناقض.. بس البنت مش عارفه تعمل إيه.. حاسه بضياع.. خايفه من كل حاجه حواليها.
محتاجه أعرف رأى حضرتك.

عزيزتى..
أشكرك لرسالتك الموجعة جدا.. والحقيقية جدا..
اللى بتوصفيه ده أنا باسميه مجازا (علاقة البلع)..
فى العلاقة دى، فيه طرف بيحاول بكل طريقة إنه يخلى نفسه المصدر الوحيد لكل حاجة بالنسبة للطرف التانى.
العلاقة دى خطيرة جدًّا، خاصة لمَّا يكون أحد الطرفين أضعف من الطرف التانى، يعنى أم وأولادها مثلا.. زى المثل اللى بتحكى عليه.
أم بتعزل أولادها عن العالم، وتوصلهم بكل طريقة إنها المصدر الوحيد لكل حاجة، يسمعوا كلامها هى وبس، يطمنوا ليها هى وبس، مايآمنوش لأى حد فى الدنيا غيرها.. هى بس اللى بتحميهم، وتهتم بيهم، وتحبهم.. والمكان الوحيد الآمن فى الكون هو جنبها وبين إيديها: الناس وحشة.. الأصحاب مش كويسين.. ماتخرجوش.. ماتسافروش.. خليكوا هنا معايا.. معايا أنا لوحدى.. جوه أعمق نقطة فى حضنى..
دى الحنية اللى وصفتيها (واللى أنا مش شايفها حنية ولا أى حاجة).. لأن هذه الأم ــ وفى نفس الوقت ــ بتزرع فى أولادها (بنتها فى حالتنا) خوف، وشك، وساعات كتير كره لأى حد تانى يحاول يقرب منهم، إن شاء الله يكون أبوهم شخصيًّا.. فما بالك بقى بالجيران والقرايب والأصحاب.
فى الحقيقة الأم دى بيكون عندها شعور رهيب بالوحدة، وعدم الأمان، والغلب العميق جدًّا.. بتحاول تستمد شعورها بالأمان وشعورها بالاطمئنان والراحة من خلال إحساسها إن أولادها محتاجينها طول الوقت.. فكده يبقى ليها لازمة، ووجودها يبقى مهم وليه معنى.. منتهى الغلب..
بتكون من جوَّاها عندها رغبة دفينة وغير واعية إنها ترجَّع الأولاد دول جوه بطنها (رحمها) تانى.. ولو طالت تبلعهم علشان تعمل كده ــ من كتر جوعها واحتياجها للأمان ــ يبقى يا ريت.. الكلام ده مش هزار..
الأولاد دول لما يكبروا ويبدأوا يتحركوا ويعوزوا يتجوزوا ويبقى ليهم حياتهم الخاصة المستقلة.. تفتكرى أمهم هاتعمل إيه؟ هاتحاول ــ بكل أسف ــ وبكل طريقة إنها تحبط عزيمتهم، وتعاكس حركتهم، وما فيش أى مانع تفشّل جوازاتهم وتفشّل حياتهم كلها.. لأن البديل.. إنها تبقى وحيدة، وخايفة، وحاسة بعدم المعنى والقيمة.
الأم دى لو أولادها سابوها وبعدوا عنها لأى سبب.. ممكن تتجنن.. وساعات حاجات أصعب..
طبعا فيه بعض الأولاد بيقدروا يقاوموا قوة البلع الرهيبة دى.. والبعض الآخر بيستسلم.. أو يقاوم شوية ويستسلم.. زى صاحبتك اللى وصفتيها.
ورغم إن الأوصاف صعبة.. إنما اللى يحاول منكم يفتكر.. هايلاقى نفسه شاف فى حياته حد بالشكل ده.. مش لازم بين أم وأولادها.. ممكن بين اتنين كبار وبعض، ممكن زوج يبلع مراته.. أو زوجة تبلع زوجها: محدش بيحبك غيرى.. محدش بيفهمك زيى.. قوللى على كل حاجة وكل شىء.. كل تفاصيل حياتك لازم تبقى عندى.. إوعى تتنفس.. إوعى حتى ترمش بعينيك.. ماتسيبنيش لوحدى.. وأنا برضه مش هاسيبك لوحدك.
ممكن أصحاب يبلعوا بعض، وكل واحد فيهم يعمى نفسه عن الحياة ومايشوفش فيها غير صاحبه، اللى لو بعد عنه.. الدنيا تتهد.. وطبعا كتير من علاقات الحب.. مليانة بلع.
علاقة فيها حد عاوز يبلع، وحد بيستسهل ويريح نفسه ويعتمد على الطرف التانى لغاية ما يتبلع.
النوع ده من العلاقات بيؤدى لنتيجة واحدة حتمية مالهاش احتمالات أخرى.. وهى إنها من ناحية بتوقف النمو.. بتمنع الكبران.. بتخلى الطرف الآخر دايما ضعيف وصغير وخايف وقليل الحيلة.. دايما محتاج الحماية والموافقة والاعتمادية.. عمره ما يحس بنفسه ولا اختلافه ولا تفرده.. عمره ما هايبقى نفسه.. لأنه دايما هايبقى نسخة ممسوخة، مبلوعة، مشوهة من كائن تانى غيره.
ومن الناحية التانية بيتخلق غول بشرى ضخم جعان مش بيشبع من بلع البنى آدميين، وجرهم إلى أفخاخه النفسية.. بالمناسبة.. ساعات ده بيكون المعنى النفسى (لأمنا الغولة).. و(للنداهة) اللى بتنده على ضحاياها فى كل مكان.. علشان تلتهمهم.. وتملا بيهم بطنها.
نعمل إيه بقى..
باختصار شديد ومن الآخر جدا.. الطرفين فى العلاقة اللى زى دى مالهومش حل غير العلاج النفسى.. فورا وحتما وبدون مناقشة.. الطرف المبلوع محتاج يتعمل إزاى يحافظ على حدوده النفسية من الاختراق والاقتحام ثم الاختفاء.. وانه يقول (لأ) بصوت عالى لأى حد يحاول يمسح وجوده فى وجود غيره.. والطرف البالع يحاول يدور لنفسه على مصادر أخرى للحياة.. مصادر حقيقية ومشبعة.. زواج ناجح.. شغل دائم.. دوائر اجتماعية واسعة.
وإلا.. فالبتر.. البتر.. البتر..

دعواتى لك ولصديقتك..

د. محمـد طــه