دكتور محمد..
أنا عايزة أستقل بنفسي وأبعد عن أهلي، عشان قرفت من العيشة معاهم، عندي شغل أونلاين. أنا مستقلة ماديًا بس عايشة معاهم للاسف، وبقيت كارهة حياتي، ونفسي أهرب أو أموت. كنت بدرس دراسات عليا لكن وقفت عشان ماديا بقي صعب. حاليًا ماديًا مستقرة لكن معنديش رغبة لأي حاجة خالص غير نوم أو موت.
– صديقتى العزيزة
مقدر جداً مشاعرك ومحترمها.. ولكن.. قبل ما تفكرى فى الاستقلال والبعد عن البيت والأهل، أرجو انك تتأكدى من الهدف والغرض الحقيقي وراء ذلك.. هل هو رغبة فى انك تنضجى وتكبرى نفسياً وتشقى طريقك فى الحياة دون الاعتماد على الأهل؟ هل هو هروب من معاملة سيئة أو علاقات غير صحية فى البيت؟ هل دى خطوة مؤقتة لحين وصولك لدرجة معينة من التوازن النفسي واللا خطوة مصيرية لا رجعة بعدها؟
مش واضح من كلامك المقصود بكلمة (قرفت)، مع تحفظى عليها.. ايه السبب فى ده؟ ايه الطرق اللى حاولتى بيها تتعاملى مع الوضع ده قبل التفكير فى الاستقلال؟
وعلى العكس.. واضح من كلامك انك بتعانى من بعض ما يستدعى العرض على طبيب نفسي قبل اتخاذ أى قرار.. زى (نفسي أهرب أو أموت).. و (معنديش رغبة لأى حاجة خالص غير نوم أو موت)..
علشان كده.. أنصحك بحاجتين..
الحاجة الأولى هى ضرورة انك تعرضى نفسك على طبيب نفسي مختص لتقييم وضعك النفسي ومساعدتك.. بغض النظر عن قرارك الاستمرار فى البيت أو عدمه..
الحاجة التانية، عاوزك تعرفى كويس الفرق بين الاستقلال والاستغناء..
فيه فرق كبير جداً بين إنى أكون مستقل.. وإنى أكون مستغنى..
مهم إنك تكونى مستقلة.. حاسة بوجودك، وبقيمتك، وبكيانك.. بس ده مش معناه إن وجودك يبقى زى الزرعة الشيطاني، اللى طالعة فى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء.. مش معناه إنك تستغنى عن وجود الآخرين فى حياتك..
مهم إنك تحطى لنفسك حدود.. وتحمى حدودك ضد أى أذى نفسي أو معنوى أو عاطفى (أو بدنى طبعاً).. لكن ده يختلف تماماً عن إنك تعيشى لوحدك فى جزيرة منعزلة منفصلة تماماً عما حولها..
أنا باشجع الاستقلال النفسي والمادى والمعنوى.. لكنى أرفض تماماً الاستغناء والإلغاء..
الاستقلال هو إنه من حقك يكون ليكى رأى مختلف عن رأى والدك ووالدتك.. وإنك تصرى على رأيك.. وتنفذيه لو حبيتى.. لكن الاستغناء هو إنك تبطلى تسأليهم عن رأيهم.. وتعتبري وجودهم زى عدمه.. وتلغيهم من حساباتك إلى الأبد..
الاستقلال هو انك تشتغلى وتقبضى وتصرفى على نفسك ويبقى ليكى ميزانية منفصلة بيكى.. انما الاستغناء هو انك تحرمى جوزك من وقتك واهتمامك ومشاعرك.. لغاية ما علاقتكم تفتر.. وتموت..
فيه احتياجات نفسية جوانا نحو الآخرين.. احتياجات من الناس.. احتياجات من الأب والأم والزوج والزوجة والأصحاب والجيران وزملاء العمل.. فيه حتى احتياجات من المجتمع.. ماينفعش ندفن احتياجاتنا من اللى حوالينا ونعيش فى فقاعة مغلقة هائمة على وجهها.. علشان الاحتياجات دى هاتقب وهاتطلع وهاتتدور على أى طريقة تعبر عن نفسها بيها.. ولو حتى سرقة..
أيون..
المستغنى يبحث بشكل واعى أو غير واعى عن بديل يسرق منه ما نقص من احتياجاته، ويقوم (بتلبيسه) الدور المفقود فى حياته..
اللى بتستغنى عن أبوها.. بتفضل تدور على أب.. فى حضن أى راجل..
واللى بيستغنى عن مراته.. بيعيش تحت رحمة ولو نظرة واحدة من طفلة صغيرة..
واللى بيستغنى عن البشر وعن الناس.. بيصاحب القطط والكلاب والعصافير..
الاستغناء هو الغاء تام لوجود الآخر.. انما الاستقلال لا ينفى وجود الآخر..
الاستقلال قد يجعل من الآخر خصماً.. لكنه موجود.. انما الاستغناء.. هو حكم بالنفى.. والعزل.. والتخلى..
الاستغناء عن الآخر معناه إنه فقدت فيه الأمل.. إنك رميت طوبته.. إنك أطلقت عليه الرصاصة الأخيرة القاتلة..
أما الاستقلال عن الآخر فمعناه إنه ما زال فيه آخر.. فيه شد وجذب.. فيه احتمال.. فيه أمل.. فيه محاولات دءوبة رغم الصعوبة..
الاستغناء مافيهوش علاقة.. لكن الاستقلال هو أحد صور العلاقة.. ولو كانت حتى علاقة كره..
ينفع تستقلى عن أبوكى وأمك.. لكن ماينفعش تستغنى عنهم.. ماينفعش تفقدى فيهم الأمل.. مهما كان موقفك منهم..
ينفع تستقلى عن جوزك.. لكن فى اللحظة اللى هاتحسى فيها انك مستغنية عنه.. يبقى تطلقى أحسن.. بدل ما تظلميه وتظلمى نفسك وأولادك معاه بممارسة هذا الاستغناء بشكل يومى مؤلم لكل الأطراف..
ينفع نستقل عن الناس.. لكن ماينفعش نستغنى عن وجود ناس فى حياتنا.. عن النظر فى عيونهم.. عن مبادلتهم بعض الكلام والحديث.. عن الهزار والنكت والحب والكره والغضب والشكر والامتنان..
الاستغناء هو الاختيار الأخير.. والأخير فقط.. حينما تفشل كل الحلول والمحاولات..
فيه شعرة رفيعة جداً بين الاستقلال والاستغناء..
لكنها حادة كالسيف..
احذريها جيداً يا صديقتى..
لأنها..
تجرح.. من الناحيتين..
د. محمــد طــه