من عدة سنوات.. وفى أحد مطاعم القاهرة.. جلست مع صديقى الجميل د. يحي قابيل.. الطبيب العربى الوحيد اللى تتلمذ على يد ستانيسلاف جروف شخصياً (المؤسس الأشهر لعلم الTranspersonal Psychology)..
كنت على تواصل مع (ستان) نفسه قبل هذا اللقاء بحوالى 15 سنة.. وقالى إنه علم طبيب مصرى بنفسه واسمه (يحي قابيل).. وقتها قعدت أسأل وأدور على صاحب الاسم دون جدوى.. سألت أخيراً أستاذى د. رفعت عنه.. وقالى انه اشتغل معاه فى مستشفى دار المقطم شوية.. وبعدين سافر.. ومايعرفش هو فين حالياً..
بعدها ب15 سنة.. وفى أحد ورش عمل مؤتمر الجمعية المصرية للعلاج النفسي الجمعى.. فوجئت بشخص يحمل نفس ملامح الصورة اللى بعتهالى ستان جروف.. قعد أمامى مباشرة فى دايرة الجروب.. وعرف نفسه بصوت هادئ ودود: يحي قابيل.
يحي قابيل شخص قادم من بين كتب الحب والأساطير.. يتسلل إلى قلبك دون أن تشعر.. وكل كلمة أو جملة يقولها تداعب عقلك ك(هيلينا) المغوية.. اللى ماتشبعش منها ولا تقدر تستوعب جمالها.. عينيه تشبه عيون حكماء الحكايات القديمة.. ووجوده الشاسع المتواضع يؤكد لك انه عاش حيوات عديدة قبل أن يستقر فى هذه الحياة.
لقاءنا فى المطعم كان قبل سفرى الأخير لانجلترا بأيام.. اتكلمنا كتير عن رحلة (يحي) المدهشة فى الحياة.. اللى مليانة تفاصيل ومفاجآت ونقط تحول وصعود وهبوط وعلم وفن وغوص عميق فى مستويات الوعي والكون والحقيقة.. رحلة غنية لازم يتكتب عنها كتاب فى يوم من الأيام..
يحي قالى: تسمع عن جوزيف كامبل يا محمد؟
– سمعت الاسم قبل كده بس ماعرفش عنه حاجة.
– جوزيف كامبل درس الأساطير من كل حضارات العالم.. وربطها بعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم أخرى..
– عظيم!
– تسمع عن الHero’s Journey؟
– لأ
– كامبل لقى حكاية بتتكرر بأشكال وصور مختلفة فى كتير من الأساطير.. حكاية ليها Pattern واحد وثابت.. فى الهند زى فى الصين زى استراليا زى أمريكا زى الحضارة الفرعونية..
– واو
– الحكاية ليها نفس الخطوات.. نفس الطريق.. نفس البداية والنهاية.. بشكل متكرر وغريب ومدهش.. فيه خطوة فى الرحلة دى اسمها Crossing the threshold .. دى زى ما تكون نقطة اللاعودة.. اللى لما يوصل ليها صاحب الرحلة بيعرف انه مش هاينفع يرجع لحياته العادية تانية..
– أوه.. وبعدين؟!
– فيه خطوة تانى بعدها بشوية اسمها The ordeal.. أو (المحنة).. ودى اللى بيخضع فيها لاختبار قاسي ومواجهة شديدة جداً مع أكبر مخاوفه وأصعب توقعاته…..
– حضراتكم تحبوا تتعشوا إيه؟
……………………………………………………………………………………………..
بس يا سيدى..
بعد ما يقابل صاحبنا أستاذه أو معلمه أو مرشده الروحى زى ما شرحنا.. بيصبح الآن مستعد لخوض رحلته المجهولة.. ويبقى عليه إنه يعبر الحاجز الفاصل بين منطقة راحته.. ومنطقة خوفه.. بين اللى يعرفه.. واللى مايعرفهوش.. بين اللى فات.. واللى جاى.. بيسموا الخطوة دى Crossing the threshold.
هنا.. هو قدام البوابة الضخمة.. اللى هايخرج منها من عالمه.. ويدخل منها فى نفس اللحظة إلى عالم آخر تماماً.
البوابة دى ممكن تكون حدث جديد.. يؤكدله انه مافيش فايدة من التردد والانتظار..
ممكن تكون صدفة أخرى تدفعه من على حافة واقعه.. إلى هاوية مستقبله..
وممكن يكون قرار واعى منه بالتقدم خطوة للأمام..
وفى كل الأحوال.. بيبقى واضح له جداً.. إنه خلاص.. مافيش قدامه اختيار تانى..
دى لحظة اختيار (نيو- فى ماتريكس) الحبة الحمرا اللى عرضها عليه (مورفيوس) وخيره بينها وبين الحبة الزرقا.. وقاله انه لو أخد الحبة الزرقا، هايصحى الصبح فى سريره، والقصة تكون انتهت، وكأن شيئاً لم يكن.. لكن لو أخد الحبة الحمرا، هايدخل أرض العجائب، ويوصل لآخر ما يمكن الوصول إليه..
دى اللحظة اللى قرر فيها (سيمبا- ابن الملك الأسد) الذهاب لمملكة والده (موفاسا) من جديد.. لخوض الحرب واستعادة التاج.
ده قرار (حنان- فى تحت الوصاية) انها تستحوذ على مركب جوزها المتوفى.. وتتحمل كل العواقب اللى هاتواجهها فى رحلتها..
هنا انت قدام اختيار حقيقي وأخير.. ما بين انك تفضل زى ما انت.. أو ماتبقاش نفس (انت) ده تانى.. أبداً..
دى اللحظة الفاصلة بين شخصيتك العادية.. وكل ما سيجرى فيها من تغيير أثناء رحلتك..
دى لحظة وداعك للشخص الذى انت عليه الآن.. قبل أن يتغير للأبد..
ده آخر لقاء بينك وبين نسخة نفسك الحالية.. التى تستعد للتفكك واعادة التركيب..
دى خطوة ركوبك الطيارة.. بعد ما قررت انك تخرج من بيتكم لأول مرة فى سفر طويل..
دى خطوة استلامك لشهادة التخرج.. اللى بنتهى حياتك كطالب.. وبتبدأ حياتك اللى لسه ماتعرفش عنها حاجة..
دى اللحظة اللى هاتلاقى نفسك فيها بعد بداية رحلتك العلاجية (أو رحلة تغييرك) بشوية، مش عارف ترجع الشخص اللى كنت عليه.. ولسه مش قادر تبقى الشخص اللى انت عاوزه..
لحظة كتب الكتاب.. أو التخلص من موانع الحمل.. أو الإمضاء على قسيمة الطلاق..
لحظة استلام شغلك الجديد.. أو تقديم استقالتك..
لحظة الوقوف فى ذهول أمام أول اجابة على الأسئلة الملحة التى تملأ عقلك من سنين.. هاه.. خلاص.. النور نور.. مش هاينفع ينطفى تانى..
كلهم.. كل اللحظات والخطوات والقرارات دى.. اللى قبلها غير اللى بعدها..
دى مش لحظات بداية الرحلة..
دى لحظات ادراك التورط فى الرحلة..
خلاص.. مافيش رجوع لورا..
انت هنا تفتقد.. وتقابل..
تقيم حداداً.. وتقيم سبوعاً..
تودع.. وتستقبل..
………………………………………………………
بعد وصولى لندن فى رحلة مرهقة.. ركبت الأتوبيس اللى هايوصلنى من مطار هيثرو إلى فندق العزل.. نزلت أمام الفندق.. استلمت حقائبى من سائق الأتوبيس بسرعة.. عملت check in فى دقائق.. طلعت الأوضة.. وقبل ما أقفل الباب.. بابص على الشنط.. فين شنطة اللاب توب؟ شنطتى فين؟
دورت.. بصيت حواليا.. بره الباب.. ورا الدولاب.. فى كل مكان.. نزلت جرى على استقبال الفندق.. الحقوا يا جماعة شنطتى فى الأتوبيس.. الشنطة دى فيها كل حاجة.. كل محاضراتى.. كل كتبى.. كل مقالاتى.. كل مشاريعى القادمة.. رسايل الماجيستير والدكتوراة.. أوراقى البحثية.. كل حاجة.. كل حاجة.. حد يكلم السواق.. طيب هاخرج اجرى ورا الأتوبيس..
– عفواً سيدى، لا يمكن ذلك.. انت فى فندق عزل لن تخرج منه قبل أسبوعين.
– والشنطة؟ دى فيها حياتى..
– هسنرسل ايميل للشركة المالكة للأتوبيس ليقوموا بالبحث والتقصي.. تصبح على خير..

د. محمـد طـه