يبدو ان كل واحد فينا عنده النداهة بتاعته.. اللى بتنده عليه كل شوية.. ويكون قدامه الاختيار.. اما يستجيب ليها.. أو يقاومها ويكمل حياته..
النداهة دى ممكن تكون حالة من الكآبة والحزن المقيم.. تشدك ليها بقوة كل ما تحاول تفرح أو تتبسط..
ممكن تكون قلق وتوتر وخوف شديد.. ينهش روح البنى آدم.. كل ما يتفتح قدامه باب جديد للأمان والاطمئنان..
ممكن تكون رغبة شديدة فى النوم بشكل زائد ومتكرر.. والاستغراق فيه لفترات طويلة.. أحياناً بدون نعاس حقيقي..
النداهة ممكن تكون المكوث فى البيت.. بدون أى رغبة فى الخروج.. لأيام.. وأحياناً أسابيع.. وربما شهور..
ممكن تكون أوضة فى البيت.. سرير.. كنبة أو كرسي..
النداهة ممكن تكون علاقة قديمة.. أو نمط معين من العلاقات.. بتحن للرجوع ليه كل شوية.. رغم فشله فى كل مرة..
ممكن تكون ولاءك الخفى لنفس سيناريو حياة والدك أو والدتك.. وسجن نفسك فيه.. وعدم الخروج منه.. رغم الفرص ورغم المفاتيح..
النداهة ممكن تكون الأم اللى بتبلع أولادها.. زى ما وصفت فى كتاب علاقات خطرة..
وممكن تكون الرغبة العارمة والشهيرة للعودة لحياة الجنين.. الموجودة داخل كل منا.. زى ما شرحت فى كتاب (لأ.. بطعم الفلامنكو)..
النداهة ليها قوة جذب عالية.. حاجة كده زى (الشفاط).. تسحبك ناحيتها.. ولو سيبت نفسك ليها.. تتبلع وتغرق..
عاملة زى البئر السحيق.. لو وقعت فيه.. تنسى نفسك.. وتنعزل عن العالم..
زى الكهف المظلم.. زى البحر الغميق.. زى القبر..
النداهة عاملة زى الرحم.. بتنده عليك كل ما الدنيا تصعب.. كل ما المسئولية تزيد.. كل ما الصراعات تحتد.. تغريك وتغويك وتقولك: تعالى.. أنا هنا.. أنا الأمان الدائم والاسترخاء المطلق..
النداهة بتخطفك.. بتسرقك من نفسك..
قدام قوة جذب النداهة العالية.. وقدرتها الرهيبة على انها تشفطك انت شخصياً وتدوبك فيها.. انت محتاج مقاومة شديدة فى الاتجاه الآخر.. محتاج انك تجاهد نفسك طول الوقت..
قدام نداهة الكآبة والحنين للمعاناة.. انت محتاج تفكر نفسك طول الوقت.. انه فيه أمل.. أكيد فيه أمل..
قدام نداهة القلق والتوتر والخوف.. انت محتاج تطمن برينا.. وبوجود ربنا.. وحكمته.. وحسن تصريفه..
قدام نداهة السرير اللى بتبيع له جسمك.. والبيت اللى بتحوله إلى رحم كبير مش عايز تتولد منه.. والكنبة اللى بتصنع منها مقبرة مش عايز تخرج منها.. انت محتاج تقرر كل يوم انك تتحرر.. وتحيا.. وتتمسك بالحياة.. وماتسيبهاش تتسرسب منك..
قدام شفاط العلاقات القديمة.. أو أنماطها المتكررة.. انت محتاج تتعلم الدرس..
قدام شفاط الولاء الخفى لسيناريوهات الأب والأم.. انت محتاج تحتاج تقول لنفسك: طيب لغاية امتى؟
يا ترى النداهة بتاعتك إيه؟ ولما تنده عليك.. بتعمل إيه؟
………………………………………….
بس.. ستوب..
ستوب إيه؟ فيه إيه؟
هأقولك..
أنا كده وصفت المستوى الأول من عمق القصة دى.. مستوى بسيط وسهل.. وتقدر تشوفه فى حياتك اليومية وتطبقه على نفسك وعلى غيرك..
تعالى نشوف بقى المستوى الأعمق.. اللى تحت..
تعالى ننزل.. ونجيب من الآخر.. من الآخر خالص..
عارف إيه أقوى وأكبر وأقدم نداهة؟
إيه الحاجة اللى بتسحبك لتحت كل شوية.. وتبقى عايزة تشفط طاقتك وحيويتك وعنفوانك؟
الحاجة اللى عاملة بالظبط زى الجاذبية الأرضية.. واللى انت محتاج تقاومها طول الوقت علشان تفضل واقف على رجليك؟
أقوى وأكبر وأقدم نداهة على وجه الأرض هى: اللاوعى.. عدم الوعي.. انك تكون مش واعي..
أبسط وأول شكل لعدم الوعي هو النوم.. اللى حضرتك بتستسلم ليه كل يوم بالليل.. وتغرق.. وتغيب.. لغاية ما تستجمع طاقتك وتسترد وعيك تانى يوم الصبح..
طيب وانا صاحى؟
انك تفصل.. تسرح.. تتوه وتغيب وانت مفتح عينيك.. وكأن فيه حاجة ساحباك وسارقة وعيك.. كلنا جربنا ده..
وإيه كمان..
انك تيأس.. انك تستسلم.. انك تسيب دفة حياتك.. انك تتخلى عن مسئوليتك ناحية نفسك وناحية غيرك..
فيه تانى؟
آه طبعاً.. العقل الباطن.. اللى بنسميه العقل اللاواعى.. اللى عامل زى (غيابات الجب- البئر العميق) السحيقة المظلمة..
وأخيراً..
الموت.. النداهة اللى بتنده عليك من لحظة خلقك حتى لحظة ملاقاته.. الموت هو كل النداهات فى واحد..
ركز بقى كده..
هاتلاقى قلة مستوى الوعى شئ مشترك بين كل صور وأشكال النداهة: الكآبة.. الكسل.. الخوف.. السيناريوهات القديمة.. اليأس..
وهاتلاقى زيادة الوعي ونموه وتطوره شئ مشترك بين كل أنواع ودرجات مقاومة النداهة وقوتها الهائلة على السحب والشفط والتغييب..
والوعي هنا مش معناه بس عدم النوم.. مش معناه فقط الفوقان والصحيان.. لكن معناه أيضاً التطور النفسي والنمو الروحى والاتساع الذهنى والإدراكى..
فيه بعض العلماء بيقولوا ان الأصل فى الحياة هو انك تبقى صاحى.. وتيجى فى آخر اليوم تتعب وتنام.. كلام منطقى ومفهوم..
الأصل هو الحركة.. والاستثناء هو السكون..
انما علماء علم النفس التحليلى ليهم رأي تانى خالص.. ربما أكثر منطقية وفهم..
الأصل فى الحياة هو السكون.. هو النوم.. الاستسلام التام.. هو درجة صفر من الوعي..
ووظيفتك فى الحياة هى بذل المجهود من أجل اليقظة.. انت بتجاهد رغبتك الشديدة فى النوم علشان تفضل صاحى..
وبتحارب لذة الجهل وسطوة الخرافات بانك تتعلم وتطور نفسك وتنمى عقلك..
الأصل هو الظلام.. ووظيفتك هى التحرك نحو النور..
الأصل هو البحر الغميق.. وشغلتك هى الطفو على السطح..
الأصل هو الموت.. وجاءت من بعده الحياة.. ثم نعود للموت وللأرض مرة أخرى.. “هو الذى خلق الموت والحياة…”
الأصل هو الأرض.. ثم الارتفاع إلى عنان السماء.. ثم العودة للأرض.. “منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى”..
علشان كده الطفل أول ما يتولد بيقضى معظم ساعات يومه نايم.. لغاية ما تتكون عنده القدرة على الوعي والحفاظ عليه..
وعلشان كده قمة درجات الاستسلام النفسي فى صورة مرضية هى الكتاتونيا- حيث أقل درجة من الوعي الانسانى..
وعلشان كده التكرار المبهر للآيات الكريمة اللى بتصف الخروج من الظلمات إلى النور وتربطه دايماً بالهداية والصواب وزيادة الوعي..
وعلشان كده رحلة الوعي صعبة.. ومرهقة.. وتمنها غالى..
جهاد طول الوقت.. يشبه جهاد انك تفضل صاحى.. والنوم بيغالبك..
مسئوليات وقرارات واختيارات حاسمة كل يوم..
أمل طول الوقت.. يشبه أمل يونس وهو فى بطن الحوت..
(وبالمناسبة الحوت والبحر والظلام فى الأحلام بترمز للعقل الباطن)..
قبل ما اختم..
تعرف ان (النداهة) أصلها أسطورة قديمة فى الريف المصرى؟ بتقول انها امرأة جميلة جداً وصوتها ساحر بتظهر فى الليالى المظلمة فى الحقول، وبتنده باسم شخص معين، فيروح لها زى المسحور.. ويلاقوه تانى يوم (ميت).. وفى نسخة أخرى.. هى بتاخده معاها (للعالم السفلى) وتتجوزه، وبعدين يظهر فى صورة شخص (مجنون)..
شايف عبقرية الأسطورة؟ النداهة.. الليالى المظلمة.. العالم السفلى.. مسحور.. ميت.. مجنون..
خلى بالك بقى..
النداهة بتنده.. وانت عليك الاختيار..
قوى السحب لأسفل لا تتوقف.. وانت وشطارتك..
يا تفضل صاحى.. وتنام شوية لما تتعب..
يا تفضل نايم.. وتصحى شوية لما تزهق..
وشئ من بعيد ناداني..

د. محمـد طـه