– أيوه.. هو ده اللى أنا أقصده..
– بالظبط.. ده اللى عايز أقوله..
– انت أخدت الكلمة من على لسانى..
– ده اللى جوايا تمام..
من أجمل وأحلى اللحظات اللى ممكن تحسها، هى لحظة ان حد وصف اللى جواك.. واللى انت مش عارف توصفه بكلامك وصياغتك..
ان حد سمّى (أطلق اسم) على حاجة انت حاسسها، وبتحاول تقولها.. بس الكلام مش مساعدك..
ان اللى قدامك قدر يعبر عن اللى انت عاوز تعبر عنه.. ويوصف اللى انت بتفكر فيه..
استنى..
فيه لحظة أجمل وأحلى..
اللحظة اللى قدامك فيها مش بس بيقول اللى انت مش عارف تقوله.. ولا بيوصف اللى انت بتحاول توصفه..
لأ..
ده هو بيقولك انه بيحصل جواك حاجة أصلاً.. بيعرفك ان فيه مشاعر وكلام لسه بيتكون من أساسه.. بيشاورلك على حاجة شغالة فى قلبك أو فى عقلك.. انت نفسك ماتكونش واخد بالك منها غير بعد ما يشاورلك عليها..
عارف لما حد يفتحلك شباك جوه نفسك.. ويفتح عينك عليه..
لما حد يمسك جفونك.. ويبعد المسافة بينهم بالراحة.. علشان يوريك حاجة انت مش شايفها.. جواك..
لما تحس بنكهة وبطعم الأكل الشهى.. قبل حتى ما تدوقه..
وكأن حد مد إيده الطيبة يلمس بيها قلبك..
أو عمل من نفسه مراية ليك.. تشوف فيها المستخبى عنك- من نفسك..
أو حد طبطب على كتفك.. وميل عليك.. وهمس بأرق درجة من صوته، فى مسامع روحك.. وقالك: أنا فاهمك..
واصلك الجمال؟
واصلك احساس الشبع؟
أيوه.. ده احساس شبع..
ده بيشبع حاجة جوانا.. بيشبع احتياج نفسي أصيل وعميق.. اسمه (احتياج انى اتفهم)..
احتياج ان حد يفهمنى.. حد يعرف المعنى اللى جوايا.. حد يظبط موجة عقله على نفس موجة عقلى.. ويعبر عن ده..
والمقصود هنا بالفهم مش مجرد الunderstanding.. لأ.. مقصود بيه الcomprehension.. يعنى (الاستيعاب).. يعنى اللى قدامك مش بس فاهمك.. هو فاهمك ومستوعب اللى حاصل جواك بتفاصيله.. قادر يدرك فى نفسك ما عصي على إدراكك انت نفسك.. أحاط بما لم تحط به خبراً- داخلك..
وبمناسبة (أحاط).. الترجمة الحرفية لكلمة comprehend فى القاموس.. هى: “اِحْتَوَى، اِحْتَوَى على، اِسْتَوْعَب، اِشْتَمَل على، اِنْطَوَى على، أَجْمَل، أَحَاط ب، أَدْرَك، اِفتَهَم، فَقِه”..
حد.. فى لحظة.. حضن عقلك..
حد.. فى موقف.. أحاط بقلبك..
حد.. فى احساس.. تفقه فى نفسك..
التقنية العلاجية الأساسية فى التحليل النفسي اسمها interpretation.. بمعنى ان المعالج بيجي عند نقطة معينة فى حواره مع المريض، ويقوله (معنى) اللى حاصل جواه.. (تفسير) اللى بيدور بينهم.. كما يراه ويشعر بيه من خلال تفاعلهم العلاجى (ومن خلال علمه ودراسته وخبرته طبعاً)..
بعد إحدى جلسات العلاج النفسي أثناء فترة تدريبى عليه فى انجلترا، سألت أستاذى عن (إيه أفضل لحظة أقول فيها للى قدامى رؤيتى لهذا المعنى/التفسير/ال interpretation).. جاوبنى إجابة عمرى ما هانساها.. قالى: وقت ما يكون المعنى ده على لسان المريض بالفعل.. بس مش عارف يصيغه)..
الحكاية دى أصلها احتياجنا الإنسانى الفطرى واحنا أطفال.. ان الأم تحس باللى جواك.. تحس بيه من قبل ما انت تقوله..
تفهمه.. قبل ما يتكون عندك جهاز الفهم من أساسه..
تستوعبه.. قبل نمو قدارتك العقلية على الاستيعاب..
وتستجيب ليه.. قبل حتى ما تطلبه..
عارف الطيور بتأكل صغارها إزاى.. بتاخد هى الأكل.. وتلوكه فى فمها.. وتمضغه.. لغاية ما تخليه مادة سهلة لينة مناسبة للهضم.. بعدها تحطه فى فم صغارها بهذا الشكل.. علشان يسهل عليهم تناوله.. ولعكه.. وبلعه.. ثم هضمه..
العملية دى سماها عالم النفس العبقرى (ويلفريد بيون) Reverie.. وهو بيوصف خطوات التعلم والتفكير والنضج النفسي.. يعنى اللى باحكى عنه ده، بيساعد على التعلم والتفكير والنضج النفسي.. ولو قولتلكم (بيون) بيشوف إيه هو أول محفز لعقولنا فى شهور عمرنا الأولى انها تفكر.. مش هاتصدقوا.. نتكلم في ده بعدين..
مجرد ان حد يحط (معنى) للى جواك.. ده شئ مُغير للنفس..
ان حد يوصف اللى بيعتمل داخلك.. دى حاجة مُطيبة لما هو داخلك..
انه يتم فهمك.. قبل ما انت شخصياً تفهم نفسك..
والتعبير عنك.. قبل ما انت بنفسك تعبر عن نفسك..
ان حد يرتب اللى كان متلخبط جواك.. ويقدمهولك.. على طبق.. من صِدق..
ان حد يكمل جملة.. بدأت فى ثنايا مخك.. وتوقفت فى الطريق إلى حلقك..
دى أحد مفاتيح القلب.. وأحد أبواب العقل.. وأحد شبابيك الروح..
فاهمنى؟ حاسس باللى باقوله؟
أنا متأكد إنك فاهمنى.. وحاسس.. باللى بأقوله..
ده مش معناه طبعاَ انه مطلوب من كل حد بيحبك انه يفهم اللى جواك ويحس بيه ويستوعبه.. ويعبر عنه قبل ما يجي فى بالك.. أو فى عقلك.. أو على لسانك.. استمرار أى احتياج طفولى بنفس شكله وحجمه شئ غير سوى ..
لكن معناه.. اننا محتاجين من حين لآخر لحد يعمل كده..
وان اللحظة دى لحظة غالية جداً.. وجميلة جداً..
ده برضه مش معناه.. ان حد يحط الكلام على لسانك..
لكن معناه.. انك محتاج من وقت للتانى حد ياخد الكلام، من على لسانك..
والفرق بينهم كبير أوى..
وكمان مش معناه ان حد يختزل اللى بيحصل جواك ويسجن مشاعرك وخبرتك فى حروف جوفاء وكلمات مصمتة..
انما معناه.. ان فيه حد.. بيقولك.. بصوتك: أنا فاهمك..
دى لحظة تجمع بين السحر.. والحقيقة..
بين ما هو داخلك.. وما هو خارجك..
لحظة قرب.. واندماج.. ووصال..
رغم أى بُعد.. ومسافة.. وانفصال..
بيقولوا عليها ساعات الAha Experience.. يعنى لحظات الدهشة الشديدة من إدراك حاجة عن نفسي ماكنتش مدركها قبل كده..
وبيكون فعلها ونتيجتها أحياناً -لو حصلت فى التوقيت المناسب والجرعة المناسبة- حدوث ما نطلق عليه الinsight.. البصيرة.. انك تشوف حاجة عميقة ومهمة جواك.. لدرجة تخليك تتغير..
وأنا أحب أسميها: “لحظة أن يحتضنك أحدهم بعقله”..
حاولوا تفهموا بعض..
تتفهموا بعض..
تحطوا نفسكم مكان بعض..
وتحسوا باللى بيحصل جوه بعض..
ده أكبر من التعاطف.. ده وصل..
وأعمق من الإحساس.. دى صلة..
وأوسع.. من مجرد الفهم.. ده تواصل..
ده ماينفعش يتعبر عنه بكلام..
واصلك اللى بأقوله؟
واصل؟

د. محمــد طــه