(1)
بتحب جسمك؟
سؤال غريب.. مش كده؟
غالبًا أول مرة حد يسألهولك..
بالرغم من إنه رفيق عمرك وصاحبك من يوم ما اتولدت.. وبالرغم من إنك ساكن فيه حتى من قبل ما تتولد.. وبالرغم من إنه ياما شاف واستحمل معاك!
بتحبه؟
طيب بتكرهه؟
قابله؟
مش قابله؟
بتحترمه؟
بتحتقره؟
بتهتم بيه؟
بتهمله؟
واللا أقولك.. بلاش إنت.. خلينا فيكي إنتي..
حاسة بجسمك؟
حاسة بوجوده؟
حاسة إنه جزء منك وإنك جزء منه؟
حاسة إنه بينتمي ليكي وإنك بتنتمي ليه؟ واللا بتتعاملي معاه على إنه حاجة طالعالك كده ومضطرة تتعايشي معاها؟
حاسة إنه فخر ونعمة وجمال واللا بلاء ونقمة وعار؟
إمتى آخر مرة سمعتيه؟
أو إمتى آخر مرة حاورتيه وأخدتي وإديتي معاه؟
نجيب من الآخر؟
هو فيه علاقة بينك وبين جسمك من أصله؟
طيب..
خلاص..
(2)
جسمك أصدق منك..
آه.. يعني ممكن بكل بساطة تقول بالكلام إنك مطمن بس رجلك اللي بتتهز عمال على بطال تقول في نفس الوقت إنك مليان خوف.. ممكن لسانك يقول (صباح الخير) بس وشك المكشر بيقول (صباح الشر).. ممكن تدَّعي إنك واثق جدًّا من نفسك.. لكن هزة صوتك ورعشة إيدك تفضحك.. علشان أي تواصل بينك وبين حد، الكلام مش بيوصل فيه أكتر من 7 في المية بس من الرسالة.. وكل الباقي بيوصل بالطريقة اللي اتكلمت بيها، ووضع وحركة وتعبيرات جسمك وإنت بتتكلم.. تصور!
سيجموند فرويد قعد أكتر من 30 سنة يحلل في الناس عن طريق الكلام اللي بيقولوه وهما ممددين قدامه على الشيزلونج.. واكتشف في آخر حياته إن كتير من اللي كان بيحكهوله مرضاه ومريضاته عن صدماتهم الجنسية في طفولتهم كان محض خيال.. وبعدها بدأ الألماني (فريتز بيرلز) يدوَّر على مصدر أصدق من الكلام لمعرفة تركيبة النفس البشرية ومحتوياتها وأمراضها وعلاجها.. لغاية ما لقى ضالته في (الجسد).. ولغته.. ومعناها.. وعمل مدرسة كاملة في العلاج النفسي اسمها (الجيشتالت).
واكتشف (بيرلز) إن كتير مننا، كلامهم منفصل عن جسمهم، منفصل عن مشاعرهم، منفصل عن أفكارهم.. يعني كلامك في حتة، وجسمك في حتة تانية، ومشاعرك في حتة تالتة، وأفكارك في حتة رابعة.. وكل حاجة منهم بتقول معنى غير التاني، وماشية في اتجاه غير التاني، وغالبًا مش بيتقابلوا.. وإننا لو عاوزين نكون أصحاء نفسيًّا.. يبقى مهم إن اللي أفكر فيه، يمشي مع اللي حاسه، وإن اللي بقوله بلساني يكون هو اللي بقوله بجسمي.. يعنى أكون كل واحد صحيح.. مش أجزاء متفرقة.. كل جزء فيهم شغال لوحده.. وعايش مع نفسه.. وما لهوش دعوة بغيره..
(بيرلز) كان بيعالج مرضاه بإنه يعرفهم على جسمهم من أول وجديد.. ويصالحهم عليه.. ويرجعلهم اللي فقدوه منه ومن نفسهم خلاله (وطلع بعدها العلاج بالحركة والعلاج بالرقص والعلاج بالفنون التعبيرية).. كان بيسألهم ويخليهم يسألوا نفسهم:
جسمك بيقول إيه؟
جسمك عاوز يعمل إيه؟
جسمك ملك مين؟
جسمك ملك مين؟
جسمك ملك ميييييييين؟
تيجي تسأل نفسك السؤال ده.. اسأل كده: جسمي ملك مين؟
احتمال تكتشف إنك عشت طول عمرك مسلم عقد ملكية جسمك لحد تاني.. أبوك.. أمك.. المجتمع.. جوزك.. الناس اللي ماشية في الشارع!!
(3)
ما تستغربش لما أقولك إن جسمك ده فيه متحف حفريات؟ آه.. جسمك فيه متحف حفريات.. مليان تحف غالية وتماثيل قديمة ولوحات من عصور سابقة..
إزاي؟
كل مرة كنت راجع من اللعب في الشارع ورجلك مش نضيفه ومامتك وقفتك على الباب وقالتلك: “إوعى تدوس على السجادة”.. رجلك خزنت الطاقة اللي كانت فيها واحتفظت بيها لغاية النهاردة..
كل مرة كنت هاتمد فيها إيدك على الأكل وإنت في زيارة مع عيلتك لحد، وأبوك بصلك البصة اللي نشفت إيدك مكانها.. عضلات إيدك قررت تفضل فاكرة الذكرى دي لغاية دلوقت..
كل مرة جيتي تلبسي الفستان وتوريه لمامتك (وإنتي عندك خمس سنين) وقالتلك عيب يا بنت ده ضهره عريان.. ضهرك لسه فاكرها..
كل مرة حبيتي تكتشفي أي حتة في جسمك (وإنتي عندك تلات سنين)، وأخدتي قلم محترم على وشك.. عضلات في وشك مش ناسياها..
كل مرة حد حاول يقرب من جسمك بشكل غريب وغير مريح.. جسمك حافظها بكل تفاصيلها..
وتمر الأيام.. وتعدي السنين.. ونكبر.. وكل حتة في جسمنا فيها ذكرى.. وكل خلية فيها حكاية.. وكل منطقة ليها تاريخ.. وكل واحد وحظه.. وكل واحد وطريقة تعبير جسمه عن ذكرياته وآلامه القديمة..
اللي يجيله قولون عصبي.. واللي يحصله صداع مزمن.. واللي طريقة مشيته كأنه متخشب.. واللي إيده تترعش قدام الناس..
اللي تكره جسمها فتهينه وتبهدله وتعرضه للبيع.. واللي ترفضه فتسيبه يزيد ويتنفخ.. اللي تحتقره فتبطل تاكل أو تتقيأ الأكل اللي بتاكله.. واللي مش طايقاه ومش طايقة فيه نفسها فتقطعه بالمشرط أو تخربشه بضوافرها لغاية ما يسيل دم.. واللي تقرر تنتقم من كل اللي أذوها طول حياتها، بأنها تنتقم منهم في جسمها، وتنقل معركتها معاهم لأرضه..
اللي مش شايفة جمالها، واللي مش مصدقاه، واللي مستكتراه على نفسها.. اللي بتتكسف من جسمها، واللي مش حاسة بيه، واللي بتستغربه..
اللي شعرها يسقط بدون أي سبب طبي واضح.. أو دورتها الشهرية تتلخبط بدون أي تفسير.. أو بشرتها تقوم بثورة عليها..أو تتجنن لو وزنها زاد كام جرام..
اللي يجيله حساسية جلدية من غير تفسير.. واللي يحصله آلام مزمنة في كل حتة في جسمه رغم كل الفحوصات والتحاليل السليمة.. واللي وشه يتملى تجاعيد قبل الأوان.. وفي الآخر.. اللي جسمه يقرر يخونه ويقع ويهدم نفسه بنفسه بجلطة في المخ أو بمرض من أمراض (المناعة الذاتية)..
جسمك مش بينسى..
جسمك بيفتكر كل حاجة..
جسمك له كيان.. وله وجود.. وله ذاكرة..
جسمك له هيبة..
(4)
من أكتر الأمراض النفسية المنتشرة في مصر نوع منها اسمه (الأمراض النفس- جسدية).. يعني الأمراض اللي فيها المريض بيشتكي بأعراض جسمانية، لكن سببها الحقيقي نفسي مش عضوي..
الأمراض دي بتنتشر في المجتمعات اللي بيكون فيها التعبير عن الألم النفسي أو المشاعر النفسية الحقيقية غير مقبول.. علشان عيب.. أو غلط.. أو محن.. أو قلة أدب.. فيضطر الجسم شخصيًّا إنه يعبر عن الألم النفسي.. بس بلغته الخاصة..
كتير جدًّا من الأطباء المصريين في جميع التخصصات تقريبًا بيلاحظوا ظاهرة شهيرة جدًّا في العيادات والمستشفيات: إن العيان مش بيخف (رغم صحة التشخيص والعلاج)، أو مش بيبطل يشتكي (رغم إنه إكلينيكيًّا خف)، أو إنه بمجرد ما يظهر عليه بوادر تحسن يبطل العلاج (رغم تنبيه الطبيب عليه)، أو إنه يخف فعلا بس يتعب تاني قبل يوم واحد من زيارة الطبيب للاستشارة!.. والسبب ورا ده بسيط جدًّا.. وهو إن الاحتياج النفسي الإنساني البسيط اللي الجسم عبَّر عنه بالمرض (النفس- جسدي) أو مع المرض (الجسدي) لسه لم يشبع.. الاحتياج ده اسمه: الاحتياج للاهتمام.. الاحتياج إني أتشاف.. وأتسمع.. وألاقي حد يهتم بيا..
الزوجة اللي زوجها مشغول عنها طول الوقت، شوية في شغله، وشوية بيقرا الجرايد، وشوية بيشوف الأخبار.. عقلها الباطن عارف كويس قوي إنه غير مسموح ليها تعبر عن تذمرها وضيقها من ده (وإلا اللي حواليها وأولهم أهلها وناسها ومجتمعها هايستنكروا ده ويطلبوا منها تحمد ربنا على اللي هيه فيه).. فيختار جسمها إنه يعبر عن ده بألم في كل حتة، ومشاكل في الهضم والتنفس وبذل المجهود.. وصعوبات عضلية وحسية وساعات كتير جدًّا جنسية..
التلميذ اللي أهله مش شايفين منه غير درجاته ونتيجته في الثانوية العامة، مش هايقولهم (ارحموني) أو (شوفوني أنا مش نتيجتي) أو (حرام عليكم اختزلتوني في أرقام يا ولاد الـ…..).. لا.. جسمه هايتكلم بدلًا منه وهايقولهم (صداااااااع) ما لهوش تفسير ولا علاج..
البنت اللي اتعرضت للتحرش والانتهاك البدني في مجتمع (متدين بطبعه) بيوصل للبنت كل لحظة إن جسمها (عار) لازم تخجل وتتكسف منه.. وإن وجودها غير مرغوب فيه من أساسه.. هاتخاف تعبر عن غضبها وإحباطها ورغبتها إنها تاخد حقها على مرأى ومسمع من الجميع.. فجسمها يقرر يقوم بالمهمة دي بدالها ويعلن عن عصيانه ليها وليهم..
ونلف على العيادات.. ونعمل تحاليل.. ونصور أشعات.. وتتلخبط العلاقات.. وتبوظ الزواجات.. وتنتهي العائلات.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
(5)
كتير جدًّا من التشبيهات والاستعارات اللغوية هي في الحقيقة أوصاف جسمانية.. بس إحنا من كتر ما بنستخدمها.. نسينا أصلها..
يعني في (فكرة حلوة).. كلمة (حلوة) دي بتوصف طعم.. أصله حاسة التذوق.. وفي (راجل خشن).. الخشونة دي ملمس.. أصله حاسة اللمس.. وفي (صارخة الجمال).. كلمة (صارخة) دي بتوصف صوت عالي جدًّا.. أصله حاسة السمع.. وغيرهم كتير..
إشمعنا؟ إيه دخل الكلام ده في الموضوع؟
في الحقيقة.. هو ده الموضوع.. هو ده كل الموضوع..
الموضوع إننا نسينا الأصل.. وانشغلنا بالفرع.. الأصل هو جسمك.. اللي وجوده وتعبيره سبق بكتير جدا وجود أي لغة كلامية لفظية.. واللي هو الوعاء اللي ربنا اختارهولك علشان يستودع فيه نفسك وروحك.. البحر الواسع اللي بتمشي فيه شرايينك وتستقر فيه أعضاؤك.. المنجم الغالي اللي هاتفضل تستكشف اللي جواه طول عمرك..
بس إحنا نسينا جسمنا لغاية ما بعدنا عنه وبقي غريب علينا.. قمنا بعقوقه بمنتهى الصفاقة ومش بنبطل نقوله (أف لك) ليل ونهار.. حرمناه مننا.. وحرمنا نفسنا منه..
تيجي نفتكره؟
طيب ياللا.. اسأل نفسك تاني..
بتعامل جسمك إزاي؟ علاقتك بجسمك إيه؟ إيه الرسايل اللي وصلتك عنه.. مرة باسم التربية ومرة باسم المجتمع ومرة باسم الدين- زورًا وبهتانًا؟ إيه الرسايل اللي بتوصلك منه؟ وإيه الرسايل اللي أنت بتوصلهاله؟
بتسمعه؟ بتعرف تسمعه؟ بتعرف تفهم هو عاوز يقول إيه؟ بيصرخ إزاي؟ بيبكي إمتى؟ بتحس هو محتاج إيه؟ بتشوف قراراته واختياراته؟ قادر تستوعب حكمته وفلسفته؟
إوعى تكوني فاكرة إنك هاتخسي طول مانتي بتكرهي جسمك.. اقبليه الأول.. هايخس بعدها بمنتهى البساطة، وبأقل مجهود، ومن غير دكاترة ولا برامج دايت..
بلاش تتعامل مع جسمك على إنه (ثور) في ساقية، تحمل عليه دايمًا وماتسمحش له إنه ياخد حقه في الراحة والاستجمام.. هايخونك في يوم ومش هاتقومله بعدها قومة..
إوعى تصدقي إن جسمك (عار)، وإنه جريمة، وإنه قلة أدب، وإنه هدفه الوحيد في الوجود هو متعة وإشباع كائن اسمه (الرجل)..
افهم جسمك.. واحترمه..
اسمعي جسمك.. وحسي بيه..
عاملوا أجسامكم بما تستحق..
د. محمد طه