معظم الأمراض النفسية ليها أسباب بيولوجية معروفة ومثبتة بدلائل علمية قوية.. إلى جانب عامل وراثي لا بأس بيه في كتير من الحالات.. لكن.. في الحقيقة الأمراض النفسية مش بتتفسر بس بالأسباب البيولوجية، أو بالعوامل الجينية، ده فيه عشرات وربما مئات العوامل الأخرى اللي بتتداخل مع بعض علشان تؤدي في الآخر للإصابة بمرض معين من أمراض النفس.. ومن أهم العوامل دي طريقة التربية، ومعاملة الأب والأم، والرسايل اللي وصلت للأبناء من خلالهم، واللي تأثيرها تضامن مع باقي العوامل لغاية ما أصبح عندنا مريض نفسى..

كل واحد فينا بيوصله خلال تربيته مجموعة من الرسائل النفسية اللي مع تكرارها وتأكيدها من الأب والأم كل شوية تتحول لجزء لا يتجزأ من التكوين النفسي للأبناء.. لدرجة أن الرسايل دي بعد كده تطلع من جواهم ليهم تلقائيًّا وكأنها بتاعتهم هما شخصيًّا.. يعني اللي وصلته رسايل من نوعية (إنت ما تستاهلش).. (إنت أقل من غيرك).. (شوف فلان أحسن منك إزاي).. هايكبر وتفضل الرسايل دي جواه.. وهايطلعله صوت داخلى كل شوية يقوله (إنت قليل).. (إنت وحش).. (فلان عمل وإنت ما عملتش).. وهكذا..

إحنا جوانا جهاز نفسي مهم زي الريكوردر متسجل فيه كل الرسايل اللي وصلتنا في طفولتنا وصدقناها عن نفسنا وعن العالم وعن الآخرين.. الجهاز ده شغال 24 ساعة في اليوم.. حتى وإحنا نايمين، ممكن يبعتلنا رسايله في الأحلام.. الجهاز ده حتة منك.. مش حاجة منفصلة عنك.. ولما الرسايل دي بتطلع لوعيك، بتكون خلاص بقت بتاعتك..

تصوّر بقى حد وصلتله رسايل نفسية وهو صغير (عادة قبل سن خمس سنوات) محتواها عبارة عن (إنت ما عملتش اللي عليك).. (إنت دايمًا مقصر).. (أنا مش راضي عنك).. (لسه فيه أحسن من كده).. (لسه ناقص شوية.. كمل..).. لمَّا الرسايل دي يصدقها عن نفسه ويخزِّنها جواه.. لدرجة إنه يبدأ بعد شوية يتعامل بيها مع نفسه.. تفتكر هايعمل إيه؟

بكل بساطة الشخص ده عمره ما هايحس إنه عمل اللي عليه.. هايملاه الشك في كل حاجة بيعملها.. هايحس بالذنب والتقصير على كل خطوة بيخطيها.. لأنها دايمًا ناقصة، ومش كاملة، وكانت ممكن تبقى أحسن..

الشخص ده كل ما يعمل حاجة تطلع له فكرة ملحة من جواه تقوله: (لسه شوية).. (ما تعملتش صح).. (المفروض كانت تتعمل بالشكل الفلانى).. (لازم تعيدها تاني علشان تطلع أحسن).. (أنا لسه مش راضي).. فيعيد ويزيد اللي عمله علشان يهدى ويرتاح من لومه لنفسه وإحساسه بالذنب والقلق والتوتر، وترجع الفكرة تتكرر تاني.. وهكذا.. وهكذا.. بلا نهاية..

الموضوع ده ممكن يحصل في النضافة، الوضوء، الصلاة، النظام، الترتيب، الأكل، الشرب، الاستحمام، قفل وفتح الباب، طريقة وتفاصيل اللبس.. أي حاجة.. أي حاجة.. سلسلة لا نهائية من الشك والمراجعة وعدم الرضا.. واحد اتربى على إنه دايمًا مشكوك فيه.. دايمًا ما فيش رضا من أبوه أو أمه.. ما يشكش في نفسه وفي أفعاله ويعيدها ألف مرة كل يوم ليه يعني؟

اللى بنوصفه ده هو واحد من أشهر الأمراض النفسية وأكثرها انتشاراً.. اسمه (الوسواس القهرى).. وساعات يتحول إلى سمات وخصائص شخصية عميقة وطويلة الأمد، ويبقى صاحبها مصاب باضطراب (الشخصية القهرية)..

فيه طبعًا شكل تاني من أعراض المرض ده.. وهي أفكار متلاحقة بتطلب من المريض إنه يشتم حد أو يسئ إلى حد.. وساعات كتير الحد ده بيكون ربنا.. وفي الحقيقة ربنا هنا مش بيكون مقصود بيه ربنا نفسه قد ما هو رمز لكل سلطة أبوية/ والدية اتعامل معاها المريض في حياته ووصلت ليه رسايل قاسية بالشكل اللي وصفناه..

ساعات كمان تتوارد على ذهن المريض أفكار أو صور جنسية، يحاول يقاومها ويقاوم الانسياق وراها، وده ساعات بيكون برضه شكل من أشكال الاعتراض والتمرد على تربية قاسية وعنيفة..

مريض الوسواس القهري بيكون جواه عملاق نفسي ضخم، صوته عالي وتأثيره قوي.. عملاق جبار لا يرضى أبدًا.. في إيده سلاحين في منتهى  القسوة.. سلاح الشك.. وسلاح الشعور بالذنب.. بيستخدمهم علشان يسلط على المريض أفكار وخيالات وصور بشكل متلاحق ومتواتر، لا يكل ولا يمل.. وطول الوقت بيعيد جواه نفس الرسايل القديمة اللي وصلته: (إنت ما عملتش اللي عليك).. (إنت دايمًا مقصر).. (أنا مش راضي عنك).. (اعمل الصح)..

العملاق ده لغته ومفرداته كلها عبارة عن مشتقات وتنويعات من (لازم).. أو (المفروض).. مجموعة هائلة من اللوازم والمفروضات اللى كل واحد فيهم عامل زى السوط الحاد المسلط على نفس صاحبه، بدون راحة، أو هوادة.. واللى أصلهم كلهم تربية قاسية، وتنشئة صعبة.. من أب عنيف، أو أم متسلطة..

طبعًا المرض ده ليه علاج نفسي ودوائي ناجح جدًّا..

بس عاوز أقولكم بكل معاني الأمل والرجاء..

ارضوا من أولادكم بأقل القليل..

بلاش تعايروهم بالتقصير وعدم الكمال..

ما تستخدموش معاهم لغة (لازم) و(المفروض)..

سامحوهم واعذروهم واقبلوا خطأهم وضعفهم وفشلهم..

وقبلها..

سامحوا نفسكم.. واعذروها.. واقبلوا خطأكم وضعفكم وفشلكم..

إحنا بني آدمين..

إحنا مش ربنا..

 

د. محمد طه