… وفى طريق رجوعهم من القاء بعض المحاضرات فى أمريكا سنة 1909.. كارل يونج حلم حلم غريب جداً.. ومهم جداً.. حكاه لرفيق رحلته، صديقه وأستاذه وقتها (سيجموند فرويد)..
يونج حلم إنه فى بيت مايعرفهوش.. بس فى الحلم كان حاسس إنه بيته.. البيت كان مكون من 3 أدوار..
الدور الأول (العلوى) كان مصمم على طراز (الركوكو) الأوروبى المزخرف (طراز معمارى نشأ فى فرنسا وانتشر فى أوروبا بالقرن الثامن عشر)..
نزل يونج للدور الأرضى.. لقاه مبنى بالطوب الأحمر الأقدم، ومصمم على طريقة القرون الوسطى..
يونج وجد تحت الدور الأرضى (قبو).. والقبو كان شكله وبناؤه وتصميمه مختلف.. كان ينتمى للعصر الرومانى..
يونج نزل كمان تحت القبو.. واكتشف (كهف) قديم وبدائى جداً.. موجود فيه أوانى فخار مكسورة.. وعظام آدمية مبعثرة.. وجمجمتين لبشر.
وانتهى الحلم..
يونج لما حكى الحلم لفرويد.. أول سؤال سأله فرويد له كان: تفتكر الجمجمتين دول بتوع مين؟
***
الأحلام بالنسبة لفرويد مصدرها الأساسي هو العقل الباطن.. وكتير من الأحلام كانت فى تفسيره wish fulfilling.. يعنى الغرض منها اشباع رغبة معينة دفينة عند صاحب الحلم..
شخوص ومكونات الحلم رموز لأشخاص وأشياء فى حياة الحالم.. بيختارها عقله الباطن بمهارة شديدة، تخفى وراءها الحقيقة.. لكنها -فى نفس الوقت- تشير اليها من بعيد.. للى يفكر ويفهم ويفسر..
الرغبتين الأساسيتين المدفونين فى عقلنا الباطن (من وجهة نظر فرويد) هما الجنس والعنف Sex and Aggression.. بنغطى عليهم ونخبيهم ونكبتهم تحت طبقات دفاعاتنا النفسية.. اللى بتيجى بالليل واحنا بنحلم وتتهاوى، بدرجة ما، فتكشف ما قد خفى بالنهار..
فرويد شاف إن أحد الجمجمتين اللى فى حلم يونج تخصه هو (تخص فرويد)، وان الجمجمة التانية تخص والد يونج.. وبكده يكون تفسير الحلم هو ان يونج جواه رغبة دفينة فى التخلص من فرويد، اللى كان بيمثل فى عقله الباطن أبوه..
لما فرويد سأل يونج: تفتكر الجمجمتين دول بتوع مين؟
يونج كان ذكى، وعرف اللى بيدور فى عقل فرويد.. وقاله بدهاء: مراتى.. وابن عمى..
لأن يونج كان ليه رأى آخر مختلف تماماً فى معنى هذا الحلم..
***
بعض الأحلام بتكون رسالة..
بعض الأحلام بتكشفلك حاجة عن نفسك..
بعض الأحلام بتشاورلك على طريق..
بعضها بيعرض حل لمشكلة.. لو انتبهت وأخدت بالك..
بعضها بيحذرك..
بعضها عاوز يساعدك فى اتخاذ قرار.. أو عدم اتخاذه..
وبعض الأحلام.. تواصل مع وعي آخرين.. ناس.. كائنات.. أشياء.. متجاوزة أى حدودو للزمان والمكان..
فيه أحلام درامية..
وأحلام تاريخية..
وأحلام زى الأفلام..
فيه أحلام مشهورة.. ومؤثرة.. وقوية جداً، لدرجة إنها عملت فرق فى حياة بنى آدمين.. وغيرت مسار أشخاص.. وأحياناً أمم..
فيه أحلام غيرت مسيرة العلم نفسه..
ومنها الحلم ده..
حلم عالم النفس النسماوى العبقرى، كارل جوستاف يونج- اللى حكاه لسيجموند فرويد سنة 1909..
***
يونج شاف ان البيت فى الحلم بيعبر عنه هو شخصياً.. عن نفسه من الداخل..
فى معظم الأوقات لما تشوف بيت فى الحلم، فهو بيعبر عنك.. بيمثلك انت شخصياً.. من بره.. ومن جوه.. البيت الجديد غير البيت القديم المتهالك.. البيت المطلى بألوان غير البيت ذو اللون الواحد.. البيت المكون من طابق واحد غير العمارة المكونة من خمس طوابق..
البيت المنور من جوه غير البيت اللى الاضاءة فيه بايظة.. البيت اللى فيه عفش.. البيت الخالى من العفش.. البيت اللى فيه حجرة واحدة.. البيت اللى فيه حجرات كثيرة كلهم مفتوحين ما عدا حجرة منهم مغلقة..
البيت اللى أرضيته غرقانة مياه.. البيت المسكون بأشباح..
وفيه الفندق..
المهم..
يونج فسر طوابق (أدوار) البيت على انها مستويات وعيه.. وطبقات نفسه..
مستوى أول (من فوق).. فيه محتويات من فترة زمنية مش بعيدة.. رمز ليها الحلم بالتصميم الأوروبى..
مستوى أعمق منه شوية (الدور الأرضى).. محتوياته أقدم شوية.. الحلم شبهها بطريقة البناء فى القرون الوسطى..
ومستوى أعمق خالص (القبو).. اللى بيحتوى على مكونات أقدم وأقدم.. نفس قدم العصر الرومانى بالنسبة لباقى العصور السابقة..
ومستوى متمادى فى العمق.. لدرجة انه ظاهر فى الحلم فى صورة كهف قديم.. فيه عظام وجماجم وأوانى فخارية مهشمة..
عارف يونج قال إيه؟
عارف فهم إيه وفكر إزاى؟
عارف اكتشف إيه؟
***
لغاية قبل الحلم ده.. كنا نعرف ان فيه تلات مستويات من الوعى.. ثلاث طبقات من تكوينك النفسي الداخلى..
طبقة سطحية.. بنسميها مستوى الوعي الظاهر Conscious .. اللى حضرتك دلوقت قاعد بتقرا وتفهم وتشوف وتحس من خلاله..
طبقة أعمق شوية.. بنسميها (ما قبل الوعى الظاهر Pre-conscious).. واللى فيه بعض ذكرياتك القديمة اللى بتحتاج شوية وقت وجهود علشان تستحضرها وتفتكرها..
وطبقة أعمق خالص.. بنسميها العقل الباطن/الوعى الباطن Unconscious).. وده فيه مشاعر وذكريات طفولة وغرائز ودوافع قديمة ومكبوتة ومدفونة ومستخبية.. وحضرتك شخصياً ماتعرفش -ولا يمكن تعرف- عنها أى حاجة إلا بطرق وأساليب معينة..
الحلم ده قال ليونج ان فيه مستوى رابع أعمق وأعمق من الوعى.. وطبقة أخرى مدفونة تحت كل الطبقات السابقة..
والموجود فى الطبقة دى مفاجأة غير متوقعة بالمرة..
محتويات وعيك فى الطبقة دى مش ذكرياتك انت.. دى ذكريات أجدادك.. آثار وجودهم قبلك..
الطبقة دى فيها اشارات من أجيالك السابقة.. وعلامات من جدودك وجدود جدودك..
فيها خلاصة خبرات حياتهم.. نصايحهم.. تحذيراتهم.. نمط حياتهم.. ومخاوفهم..
هنا تلاقى حكمة الأقدمين..
الطبقة دى هى حلقة الوصل بينك وبين سلسالك وتاريخك وأصلك..
فى الحقيقة مش أصلك انت بس..
انت هنا.. بتتواصل مع أصل البشرية كلها..
يونج فى الفترة دى كان بيدرس ويبحث فى دواخل النفس البشرية.. وفى أعماقها وخنادقها..
والحلم ده كان الإجابة.. على تساؤلات كتير جواه.. وحل لألغاز حيرته سنين..
مهم فى أى حلم إنك تعرف مين اللى حلمه.. والسياق اللى حلمه فيه.. ومعنى الحلم بالنسبة له هو شخصياً.. قبل ما تفكر وتفسر وتمشى على مسطرة واحدة فى فهم وتفسير كل الأحلام.. حتى لو كانت متشابهة المحتوى والرموز..
يونج بعد الحلم ده.. فتح باب كبير وواسع من العلم.. وسبر أغوار كهف مظلم عتيق.. أو -بالأحرى- كان مظلم وعتيق..
اتعملت أبحاث واتنشرت دراسات، واتكتبت كتب ومجلدات، وبقينا نعرف ما يطلق عليه: (اللاوعى الجمعى Collective Unconscious).. أكيد انت سمعت المصطلح ده قبل كده..
***
ده حلم.. غيّر العلم..
فيه حلم.. يغيّر التاريخ.. زى حلم ملك مصر اللى فسره سيدنا يوسف عليه السلام..
فيه حلم.. يغير علاقة ناس ببعض.. يقربهم.. أو يبعدهم..
وفيه حلم.. يغير علاقتك انت شخصياً بنفسك..
بعد حلم يونج بشوية.. هو و(فرويد) اختلفوا.. وبقى فيه بينهم اعتراضات علمية وملاحظات نقدية ومشاكل شخصية.. وقرر يونج ينهى علاقته بفرويد سنة 1913.
يعنى (يونج) سنة 1913 تخلص من (فرويد).. زى ما فرويد فسر حلم يونج.. فاكر؟
إيه ده؟
يعنى تفسير فرويد صح؟
آه..
تفسير فرويد كان صح.. وتفسير يونج برضه كان صح..
كل حلم ليه مستويات.. مستويات كتير جداً..
تفسير فرويد كان صحيح على مستوى.. وتفسير يونج كان صحيح على مستوى تانى..
وده ينفع؟
طبعاً ينفع.. الأحلام عاملة زى الأكوان.. متعددة الأبعاد..
أحد ملوك بابل كان عنده 24 مفسر للأحلام فى بلاطه الملكى.. وفى مرة حلم حلم، وكل واحد منهم فسره بشكل مختلف.. وال24 تفسير كانوا صح.. وكلهم اتحققوا..
أقولك مفاجأة.. اتقالت مرة فى أحد الأفلام:
انت عمرك ما تفتكر بداية أى حلم.. انت بتلاقى نفسك فجأة فى منتصف أحداثه.. اللى بتلاقى نفسك عايشها.. وحاسسها.. وجزء منها.. ماتعرفش ازاى..
زى المقال ده بالظبط..
انت فاكر المقال ده بدأ ازاى؟
د. محمـد طـه