الصورة الكاملة

(1)

من أحد مشاهد مسلسل (سقوط حر- رمضان 2016):

– الطبيب النفسي: إيه اللي كان ممكن يسعدك؟

– والدة المريضة: حاجات عادية.. بيت.. عيال.. زوج..

– الطبيب النفسي: طيب مانتي كان عندك بيت وعيال وزوج!

–  والدة المريضة: بس كان عندي حاجة تخليك ما تشوفش معاها أي حاجة تانية..

– اللي هيه إيه؟

– الخوف..

بعض كتاباتي السابقة كانت بتركز على دور الرسايل اللي بتوصل من الآباء والأمهات في تكوين صعوبات وأعراض وأمراض نفسية عند أبناءهم. وبالرغم من إن ده مش العامل الوحيد في الإصابة بالمرض النفسي (فيه عوامل جينية وبيئية وغيرها كتير)، لكنه– في رأيي- عامل مهم جدًّا.. علشان الرسايل دي بتتحول بعد شوية لجزء لا يتجزأ من التكوين النفسي للأبناء.. وبتكون في قوتها وتأثيرها أقوى بكتير من الجينات والبيئة والظروف..

في الحقيقة كل ده هو جزء بسيط من الصورة الكبيرة.. اللي هاحاول أوضح دلوقت جزء آخر منها..

المرة دي أنا هاتكلم عن الجانب الآخر من الحكاية.. جانب الآباء والأمهات اللي بيوصلوا لأبناءهم رسايل نفسية مؤذية ومشوهة بدرجات مختلفة..

للوهلة الأولى بنشوفهم على إنهم ناس قساة جناة.. جنوا على أولادهم.. مقدروش يحسوا بيهم ويفهموهم ويحبوهم حب حقيقي غير مشروط.. ناس تفننوا في سوء المعاملة والإهانة والذل والبعد.. ناس ضارّين مؤذيين معندهمش قلب ولا رحمة ..

لكن..

الرؤية دي عاملة زي اللي شايف مشهد واحد من حكاية طويلة عريضة.. أو بيبص في صورة ثابتة ليها بعدين اتنين فقط.. رغم إن فيه تفاصيل كتير للحكاية.. وأبعاد أكتر للصورة..

باقي الحكاية موجود فيما يُسمى علميًّا باسمSchizophrenogenic Mother، أو الأم المسببة للفصام لدى أبناءها. الأم دي عندها إحساس رهيب بالخوف.. رعب مالهوش حدود.. فقدان عميق لأي درجة من درجات  الإحساس بالأمان.. ده ممكن يكون نتيجة ضغوط حياتية صعبة اتعرضت ليهاً.. أو فقد لحد غالي جدًّا، أو تربية قاسية هي  شخصيًّا عاشتها.. أو حاجات تاني.. أو كل دول مع بعض..

الأم دي بتفضل تقاوم وتقاوم لغاية ما توصل للحظة معينة ما تقدرش تعافر فيها أكتر من كده، بتكون استنفدت كل طاقتها، واستخدمت كل أسلحتها، ونفَسها فعلا اتقطع.. فتضطر إنها تاخد قرار صعب جدًّا هاتعيش بيه حياتها اللي جاية كلها.. قرار هو الأصعب والأقسى على الإطلاق.. قرار إنها تدفن نفسها..

(2)

القرار اللي بتاخده الأم هنا هو قرار معقد جدًّا، تقدر تقول إنه تلات قرارات في بعض.. أو قرار ليه تلات مستويات أو وجوه:

بتقرر أولاً إنها تدفن أنوثتها الفطرية الحقيقية اللي اتولدت وعاشت بيها (شوية)، وتتحول (نفسيًّا) لراجل خشن صلب قوى تحاول تحمى بيه نفسها وأولادها، راجل يقدر يعمل كل حاجة، ويعرف يعمل كل حاجة، راجل راجل يعني.. وطبعًا ساعات بتقرر تطلع أنثى مزيفة مبهرجة مائعة، تنتقم بيها من كل الرجالة.

بتقرر كمان إنها تلعب دور المنقذ للأولاد، وده دور حياتي درامي شكله من بره لطيف جدًّا، بتكون فيه الحارس الهمام، والناصح الأمين، وحامي الحمى للأولاد الضعاف من كل شيء وأي شيء.. وفي الحقيقة هي مش لازم تحرم أبناءها من الحب والحنان ولا حاجة، بالعكس، الأخطر إنها تديهم الحب والحنان بزيادة للدرجة اللي تخليهم ما يقدروش يستغنوا عنها.

وتقرر أخيرًا إنها تبلع أولادها.. أيون.. تبلعهم.. ما تتخضش من التعبير.. تبلعهم بمعنى إنها تحاوطهم من كل ناحية، وتمنع عنهم الميه والهوا، تخلي نفسها هي المصدر الوحيد للحب والحنان والعطاء والأمان والفلوس وكل حاجة، تخليهم محتاجينها طول الوقت، ومعتمدين عليها في كل حاجة بدون حدود.. تبعدهم عن كل الناس (وساعات عن أبوهم نفسه).. وتعمل كده بمنتهى البراعة علشان دي الحاجة الوحيدة اللي ممكن تحس من خلالها بالأمان (الزائف طبعًا)..

الحاجة الأكتر والأخطر واللي ممكن تصيب الأولاد بالفصام في بعض الأحوال (من هنا جه الاسم العلمي للنوع ده من الأمهات)، هو إن الأم دي دايمًا بتوصل لأولادها رسالتين عكس بعض في نفس الوقت.. يعني تقول لابنها (ياللا شد حيلك علشان تنجح)، بس من جواها وبتصرفاتها بتوصله: (إوعى تنجح لحسن تتخلى عني)، وتقول لبنتها: (إنتي كبرتي واحلويتي وبقيتي على وش جواز)، بس من تحت لتحت بتقولها: (إوعى تتجوزي    وتسيبيني).. الأم هنا مرعوبة من الوحدة، خايفة من إحساسها الرهيب بعدم الأمان، هاتتجنن فعلا لو بقت لوحدها.. الأم هنا بجد.. أغلب من الغلب..

(3)

– أنا ما لحقتش أعيش يا دكتور، أنا ما فرحتش بحاجة، ما فرحتش بنفسي وأنا بنت لسه متجوزة، ولا فرحت بنفسي وأنا أم.. أنا ما عشتش.. أنا ضيّعت عمري كله علشان بناتي يطلعوا كويسين.. ودي آخرتها..

مشكلة القرارات المركبة اللي بتاخدها الأم دي (وساعات الأب بس بتفاصيل مختلفة)، هي إنها أولاً بتحرمها من أنوثتها الحقيقية اللي كلها طيبة وفرحة وحياة وحنان وحب ورحمة. وثانياً.. بعد شوية هايتحول دور المنقذ اللي بدأت بيه، لدور الضحية اللي بتضحي بكل حاجة في حياتها وسنينها وعمرها علشان غيرها، وده دور بائس ويائس وبيخلي صاحبه طول الوقت مستمتع بتعذيب نفسه وذلها وهوانها وحرمانها من كل حقوقها الإنسانية باسم التضحية في سبيل حد تاني (ومجتمعات زي مجتمعنا بتسقف جدًّا للدور ده)..

وبعد شوية كمان هايكمل السيناريو بإنها تكون هي (الجاني) على أولادها اللي هاتكتشف في آخر المشوار إنها حرمت نفسها من الحياة بسببهم، وضيّعت نفسها علشانهم.. وتبدأ تخليهم يدفعوا تمن ده من وقتهم وجهدهم وتفكيرهم وأعصابهم، ونفسيتهم، وتبدأ تحسسهم بالذنب كل لحظة بكلمات زي    (أنا ضيّعت عمري ودفنت نفسي بالحيا علشانكم) و(أنا ما عيشتش علشان إنتوا تعيشوا) و(أنا ما خدتش من دنيتي حاجة بسببكم).. وما تستغربش لما أقولك إن جسمها ساعات بيكون طرف في اللعبة ويجيلها ضغط وسكر وجلطات ونزيف وأورام، وده يخلي أولادها يدفعوا التمن أضعاف أضعاف بجد..

كام واحد مننا سمع الكلام ده (ببعض التنويعات طبعًا)؟ كام واحد شاف السيناريو ده بيتكرر قدامه؟ طيب كام واحدة أو واحد عاشه بنفسه؟

ما فيش داعي للإجابة..

طبعًا مش النوعية دي من الأمهات هي بس اللي بتساعد في وجود أمراض نفسية عند أولادها، فيه أنواع كتير من الأمهات والآباء غيرها بيعملوا كده برضه.. بس دي أعقدهم وأخطرهم..

(4)

فيه نوع من العلاج النفسي اسمه العلاج النفسي الديناميDynamic Psychotherapy .. بيحاول المعالج يشوف فيه مع مريضه إيه الرسايل اللي وصلته في طفولته وإزاي أثرت فيه لغاية النهاردة، وإزاي علاقته بأبوه وأمه منعكسة عليه في علاقته بنفسه وبالآخرين وساعات بربنا (ده في ثقافتنا طبعًا).. في المراحل الأولى من العلاج بيشوف المريض قد إيه هو اتعرض لتشويه وأذى وضرر وإتلاف نفسي ومعنوي من والديه، وبيشوف قدّ إيه أرضه كانت مستباحة علشان بس يتحب أو يتقبل أو يُهتم بيه، وإنه حتى لما كان ده بيحصل، كان بيحصل بشروط وقيود وتمن غالي كان لازم يدفعه..

لمّا المريض بيشوف ده، بيتفجر جواه طاقة هائلة من الغضب والعنف وساعات الانتقام، وبيقوم أحيانًا بالتعبير عن ده بأشكال وأساليب مختلفة.. وبيكون مهم جدًّا وقتها إننا – كأطباء وكمعالجين- نقبلها ونحتويها..

لكن..

بعد شوية، بيكتشف المريض المفاجأة المذهلة.. اللي بتقلب موازينه رأسًا على عقب..

بيكتشف إن أبوه وأمه في الحقيقة أغلب منه بمراحل، وإنهم هما شخصيًّا اتعرضوا لتشويه وأذى وضرر نفسي بيكون ساعات أقوى وأشد من اللي   اتعرض ليه المريض نفسه منهم.. وبيكتشف إنهم قبل ما يؤذوه، كانوا ضحية للأذى، وقبل ما يقسوا عليه، كانوا ضحية للقسوة، وقبل ما يظلموه، هما نفسهم اتظلموا كتير..

بيكتشف المريض شوية شوية إن اللي عمله معاه أبوه وأمه كان هو الحاجة الوحيدة اللي شافوها، والحاجة الوحيدة اللي يعرفوها، والحاجة الوحيدة اللي اتربوا عليها واتعلموها..

بيكتشف إنهم بؤساء، وغلابة، ومظلومين.. وإنهم كانوا لفترات طويلة جدًّا خاضعين لظروف أقسى ورسايل نفسية أعنف..

مش بس كده..

ده بيكتشف كمان إنه ساعات بيكون مجرد حلقة صغيرة في سلسلة طويلة من الأجيال المتعاقبة اللي بتورث لأولادها وأحفادها العقد والصدمات النفسية والسيناريوهات البائسة (فيه نظرية كاملة في الأمراض النفسية اسمها توريث الصدمات عبر الأجيال)..

بيكتشف، وبنكتشف معاه، إن فيه وجه تاني للعملة، وبعد ثالث ورابع للصورة، وحكاية طويلة ورا المشهد..

ساعتها بيكون عليه إنه يختار ما بين إنه يفضل في غضبه وعنفوانه ورغبته الطفولية في الانتقام، وما بين إنه يشوف الصورة الكاملة، ويعذر، ويسامح، ويرحم، ويكبر..

وساعتها بيشوف بما لا يدع مجالاً للشك، إنه إذا كان أبوه وأمه وصّلوله زمان رسايل نفسية مؤذية، وهو صدقها مضطرًا، فهما كمان وصلتهم رسايل مؤذية، وصدّقوها مضطرين.. وإنه الوحيد المسئول دلوقت عن الاختيار ما بين الاستمرار في تصديق الرسايل دي، أو اتخاذ قرار علاجي وجودي ما لهوش بديل.. وهو إنه يتغير.. ويخف.. أيون.. المريض النفسي يقدر يقرر إنه يخف..

الرؤية دي طبعًا صادمة، ومزعجة، ومحيرة.. بس منطقية، وحقيقية، ومفيدة جدًّا، لما تيجي في وقتها..

لو كان ده وقتها بالنسبة ليك..

لو كنت شايفة إن ده وقتها بالنسبة ليكي..

تيجي نعذر نفسنا ونعذرهم؟

تيجي نسامح نفسنا ونسامحهم؟

تيجي نشوف احتياجاتنا اللي اتحرمنا منها وأخدناها بشروط ونشوف احتياجاتهم اللي اتحرموا منها، أو أخدوها برضه بشروط؟

تيجي نشوف الصورة الكاملة؟

تيجي نكون آخر جيل هايستلم الإرث النفسي التقيل ده؟

تيجي نمنع توريثه لأولادنا وأحفادنا؟

تيجي نتغير؟

تيجي نبدأ بنفسنا.. وبدايرتنا الصغيرة..

تيجي نصدق إن العلاج هو الحب.. والترياق هو السماح.. والطريق هو الرحمة..

بالمناسبة.. فيه نوع تاني من العلاج النفسي اسمه Forgiveness Therapy أو العلاج بالتسامح، قائم على فكرة إنه إزاي لما بنسامح، ده بيخلي جروحنا الداخلية تندمل.. وشروخنا النفسية تلتئم.. وطاقتنا تتوجه من الغضب والانتقام اللي ممكن ياكلنا، للحب والحياة اللي ممكن تساعدنا..

طبعًا لو ما كانش ده الوقت المناسب بالنسبة لك، أو لو ما كنتش مستعد دلوقت.. أو لو كان اللي حصل أكبر من قدرتك على استيعابه والتعامل معاه.. ما فيش أي مشكلة.. وما فيش أي داعي للضغط أو الغصب أو الاستعجال.. لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.. وكل شيء بأوان..

كفاية دلوقت إنك تحب نفسك وتسامحها وترحمها..

علشان برضه مع نفسك..

 العلاج هو الحب..

والترياق هو السماح..

والطريق هو الرحمة..

 

د. محمد طه

مشاركة من خلال :

Facebook
X
LinkedIn
WhatsApp
Telegram