تفتكر إيه أصعب حاجة ممكن الواحد يعملها لما يتعرض لحدث نفسي هائل يفوق قدراته النفسية على التحمل: حادث مفاجئ.. خبر وحش.. ظروف صعبة.. أذى بدني أو معنوي شديد.. تربية قاسية.. فقد شيء أو شخص غالي أو عزيز (مع وجود بعض العوامل الجينية، وبعض الاضطراب الكيميائي بالمخ، وبعض الظروف الاجتماعية أو البيئية طبعًا)؟

في الحقيقة هو ممكن يعمل (أو تحصل له) حاجات كتير، منها إنه يصاب بمرض أو عَرَض نفسي.. اكتئاب.. توتر.. اضطراب ما بعد الصدمة.. أو درجات مختلفة من غياب الوعي.. وساعات اضطراب في الشخصية، وممكن جنون.. وغيرهم..

الأمراض النفسية ليها أشكال وأنواع كتير جدًّا.. لدرجة إن أساميها بتتغير كل شوية مع الاكتشافات الجديدة في عالم الطب النفسي.. لكن من وجهة نظر تحليلية معينة، بعض الأمراض النفسية هي في الحقيقة رجوع للخلف (نكوص/ Regression)..

بمعنى.. إنه أمام الصدمة النفسية الشديدة اللي  ممكن حد يقابلها أو يمر بيها، بيقرر عقله – في بعض الأوقات- إنه يرجع لآخر مرحلة عمرية كان حاسس فيها بالأمان والاتزان النفسي.. عادة بتكون المرحلة دي أثناء الطفولة.. يرجع سنة، اتنين، ثلاثة، عشرة، عشرين.. هو ونصيبه.. وبتظهر عليه وهو كبير كل المواصفات والخواص النفسية اللي كانت موجودة عنده في المرحلة العمرية الصغيرة دي (بس وقتها كانت موجودة بشكل طبيعي كجزء من نموه)..

تصور بقى لو المريض كل ما يرجع بعقله كام سنة لورا، يلاقي المرحلة اللي   رجعلها مرتبطة كمان بصدمة نفسية تانية، وتالتة، وهكذا.. ساعتها هايضطر يعمل حاجة صعبة جدًّا.. وهي إنه هايفضل يرجع لغاية ما يوصل للمرحلة النفسية اللي كان فيها وهو عنده كام شهر، لما كان بيتخيل/ يهلوس حاجات مش موجودة يسلي بيها نفسه في غياب أمه (وإحنا نقول عليه ده بيحرك عينيه علشان بيشوف الملايكة).. ونسمي ده في علم المرض النفسي رجوع/ نكوص غائي متقدم Progressive Teleological Regression يؤدي إلى (الفصام).. الجنون يعني.. وهو من أعتى الأمراض النفسية.. لكنه مش أعتاها ولا أصعبها على الإطلاق..

الأعتى والأصعب فعلًا من الجنون ومن الاكتئاب ومن اضطراب الشخصية هو إن المريض يرجع لورا شوية أكتر.. آه.. يرجع كمان قبل الكام شهر الأولانيين في عمره، علشان حتى دول ما كانش حاسس فيهم بالأمان (إهمال شديد من الأم، قسوة شديدة من الأب أو الأم، صدمة نفسية شديدة جدًّا).. ساعتها هايقرر (بشكل غير واعي) إنه يرجع للرحم.. لحياة ووضع وسلوك الجنين..

فاكرين مسلسل (سارة).. أهو هو ده اللي كان حاصل ليها.. سارة كانت عايشة حياة الجنين علشان دي كانت آخر مرحلة هي حست فيها بالأمان في حياتها.. ولما اطمنت للعالم وللناس عن طريق الدكتور اللي  كان بيعالجها (د. حسن)، كبرت شوية وبقت تتكلم وتتصرف زي  الأطفال الصغيرين.. وتوالت أحداث المسلسل..

كل ده أنا كاتبه في الحقيقة علشان أمهد وأقدم للكلام الجاي..

إنت عارف إن الجنين في رحم أمه بيحس وبيستقبل رسايل كتير من العالم الخارجي.. بيوصله حنان أمه ومشاعرها.. بيحس هي  مضايقة واللافرحانة، بيعرف هي مطمنة واللا قلقانة، بيوصله هي بتحبه واللا لأ، قابلة وجوده واللارافضاه، عاوزاه واللاجه غلطة.. هو بيحس ويستقبل كل ده بطرق كتير جدًّا أبسطها الهرمونات اللي بيفرزها جسم الأم في حالاتها النفسية المختلفة وبتوصل للجنين من خلال المشيمة.. يعني حتى جوَّه الرحم.. ممكن الجنين يحس بالحب والعطف والقبول والأمان.. أو يحس بالكُره والجفاء والرفض والتهديد.. ده مش كلام فلسفي ولا أسطوري.. ده كلام علمي عليه آلاف الأبحاث والدلائل الحديثة..

المهم.. تصور بقى لو حد حصله صدمة نفسية بأي شكل من اللي وصفناهم، وكل ما عقله يُحاول يرجع لآخر مرحلة عمرية حس فيها بأمان ما يلاقيش، ولا حتى في الرحم وهو جنين.. عارف هايعمل إيه؟ عارف إيه القرار اللي   عقله هاياخده (بشكلٍ غير واعي طبعًا) وينفذه.. قرار في منتهى الصعوبة والقسوة.. قرار إنه ينفصل عن العالم.. يخاصم الحياة.. يقفل على نفسه أبواب نفسه.. هو مش هاينتحر أو يموت نفسه.. لا.. هو هايعمل حاجة أصعب.. هو هايعيش ميت.. هايبقى زيه زي أي نبات أو جماد.. لا ياكل، ولا يشرب، ولا يتكلم.. تشيله من هنا وتحطه هنا.. ما يتحكمش في أعصاب وعضلات جسمه ولا حتى في دخوله الحمام.. لو سيبته واقف هايفضل واقف.. لو خليته قاعد هايفضل قاعد.. إنت قدام شخص قرر يفارق الحياة وهو عايش.. بيسموا ده في الطب النفسي كتاتونيا Catatonia، وهي كلمة من أصل لاتيني معناها جثة.. بني آدم قرّر يتحول لجثة.. علشان ده الوضع الوحيد اللي بيحس فيه بالأمان.. وضع الخروج من الحياة بكل سخافتها وضراوتها ومخاوفها.. هو مش بس بيغيب بوعيه زي حالات الهيستيريا والانشقاق.. لا.. ده كمان بيغيب عن العالم بجسمه.. وبمشاعره.. وبأحاسيسه..

الكتاتونيا هي أصعب مرحلة من المراحل اللي ممكن يوصل ليها أي مريض نفسي، وعلاجها أصعب منها، وفهمها والوصول لمعانيها المختلفة من مريض لمريض أصعب وأصعب..

في جلسة مع إحدى مريضات الكتاتونيا بعد علاجها.. قالت المريضة للمعالج بتاعها (الإيطالي سيلفانو آريتي) إنه من ضمن أسباب مرضها بعدم الحركة والانفصال عن العالم هو شعورها بالذنب، لأنها كانت متصورة إن أي حركة هاتعملها ولو بسيطة هاتلخبط موازين الكون كله.. كلام شكله غريب.. لكن في الحقيقة، المريضة دي وصلها طول عمرها إن كل أفعالها غلط.. وكل كلامها بيعمل مشاكل.. وكل تصرفاتها بتلخبط الدنيا.. اللي حواليها وصّلولها شعور عميق وساحق بالذنب على كل حاجة.. لدرجة إنها حسّت إن وجودها نفسه يدعو للشعور بالذنب.. فقرر عقلها الباطن إنه يشل هذا الوجود ويوقف نشاطه ويمنعه من عمل كل شيء وأي شيء.. علشان ما تغلطش وما تتعرضش للعقاب.. وما تحسش بالذنب..

الكتاتونيا هي انعدام الحياة النفسية بحثًا عن لحظة أمان واحدة فيها..

الكتاتونيا هي قرار بوقف الوجود.. من شدة الألم والخوف..

الكتاتونيا هي أعمق درجة من درجات الموت النفسي..

لو ليكم أصحاب.. قربوا منهم وحبوهم واستقبلوا حبهم.. احفروا ذكرياتكم الحلوة معاهم في كل خلية فيكم..

لو ليكم أهل.. اقعدوا معاهم واسمعوهم وكلموهم.. سامحوهم واعذروهم.. احضنوهم وحسوا بحضنهم..

وانتو بتربوا أولادكم.. خلوا فيه بينكم وبينهم لحظات حلوة كتير.. مواقف طيبة فيها قبول وفرحة ورحمة..

علشان في وقتٍ من الأوقات..

لحظة أمان واحدة.. ممكن تكون هي  حائط الصد ضد صدمةٍ نفسيةٍ مفاجئةٍ..

موقف طيب بسيط.. ممكن يكون هو درع الحماية قصاد هجوم المرض النفسي وشراسته..

حضن دافي صغير .. ممكن يكون هو مكانك الأخير عند اختفاء كل الأماكن..

كلمة حلوة.. نظرة قرب.. ابتسامة رضا.. ممكن تكون هي الملجأ والملاذ والمنقذ.. وقت طوفان النفس العنيف..

غمض عينك.. حسهم.. افتكرهم.. استرجعهم.. وامسكهم بذاكرتك.. وما تفرطش فيهم أبدًا..

ولو قليلين أو مش موجودين.. الحق واصنعهم وعيشهم واستمتع بيهم واحتفظ بيهم جواك.. يمكن يكونوا هما الفرصة الأخيرة..

قبل الرجوع النفسي للخلف..

 

د. محمد طه