سبتمبر 2006:
سنة 2006 كانت بداية بعتثى للدكتوراة فى انجلترا.. ومن أول يوم ليا هناك لاحظت ملاحظة غريبة جداً، وصلت ذروتها لما سألنى مستر (كلوفر) صاحب البيت اللى كنت مأجر منه أوضة لأول ٣ شهور من إقامتى:
– انت الدكتوراة بتاعتك عن إيه (محمد)؟
– أنا باشتغل على (العلاج النفسي كعملية إبداعية) يا مستر (كلوفر).. بحاول أقارن بين خطوات وتفاصيل ونظريات الإبداع من ناحية، وخطوات وتفاصيل ونظريات العلاج النفسي من ناحية أخرى.. يعنى باختصار كده يا مستر (كلوفر) عاوز أثبت ان العلاج النفسي عملية إبداعية زيها زى عملية تأليف مقطوعة موسيقية أو رسم لوحة فنية أو كتابة عمل أدبى.. وان تغير المرضى من خلال العلاج النفسي هو عملية ابداع حقيقي داخل أنفسهم.
كانت الجلالة بدأت تاخدنى، وهاكمل شرح بقى وأصول وأجول فى أبعاد ومستويات العلاج النفسي والإبداع، لكنى اتفاجأت بالراجل بيقاطعنى بكل ثقة ويقولى:
– Yeah, it is really a creative process!
نعم، إنها عملية إبداعية..
سكتّ لحظات، وأنا مش فاهم هو بيتريق والا بيتكلم جد والا إيه ده؟ انت تعرف منين يا عم عن العلاج النفسي، والا عن الإبداع.. والا انت بتاخدنى على قد عقلى والا فيه إيه؟
الراجل كمل كلامه، وقال: أنا باشتغل فى شركة كبيرة فى لندن، ومن حوالى سنتين لاحظنا ان انتاجية الشركة بدأت تقل، حاولنا نبحث ونشوف إيه الأسباب والظروف اللى أدت لكده.. ومن ضمن اللى عملناه إننا جيبنا طبيب نفسي مختص باستشارات الشركات والمنظمات Organizational Consultant.. الطبيب ده أقام عندنا فى الشركة وكأنه واحد من الموظفين.. اتعامل معانا واحتك بينا وبحياتنا وأعمالنا اليومية.. وقدم تقرير للإدارة فى آخر ال٣ شهور قال فيه إنه شايف سبب تدهور الإنتاجية هو مشكلة فى Group Dynamics بين الموظفين.. علاقاتهم مع بعض مضطربة وغير سوية نفسياً.. وانه بينصح بتدخل متخصص للعلاج.. وعملنا كده فعلاً.. والعلاقات اتغيرت.. والأمور اتحسنت.. وبعد سنة.. انتاجية الشركة رجعت أفضل من الأول.. وتضاعفت فى السنة التالية.. أنا شايف التغير اللى حصل فى الموظفين بتوعنا، وفى علاقاتهم، وفى الشركة، عملية إبداعية يا (محمد)..
محمد اسبهل وسكت ومانطقش.. وراح فى عالم من الدهشة والذهول..
موظف فى شركة بيتكلم عن الgroup dynamics والعلاج النفسي والإبداع.. قبلها بيومين ناس عادية فى الشارع سمعتهم صدفة بيتكلموا وبيجيبوا اسم (فرويد) وسط كلامهم.. وبعدها بأسبوع الراجل اللى بيعزف موسيقى على أول الشارع كل يوم علشان يلم قرشين من عرق جبينه، لقيته قاعد على الكمبيوتر اللى جنبى فى (انترنت كافيه)، بيدور على شغل، لأن (الشغل علاج)..
سألت نفسي سؤال واحد: معقول ممكن يجي علينا يوم فى مصر الحبيبة.. ويبقى عندنا وعي نفسي لهذه الدرجة؟
***
مايو 2021:
السنة دى ماعملتش أى تحليل لأى مسلسل أو حتى مشهد من مسلسل فى شهر رمضان.. اكتفيت بإنى آخد خطوة للوراء.. وأشوف المشهد من بعيد.. ولقيت إجابة سؤالى..
شوفت -وبشكل يومى- ناس بتكتب رؤيتها وقراءتها النفسية لحلقات ومشاهد ومسلسلات..
قرأت مقالات وبوستات محتواها وصياغتها أحسن ألف مرة من اللى ممكن كنت أكتبه..
فوجئت بناس بتشير صورة (فرويد) شخصياً تعليقاً على اسقاط علاقة واحد بوالدته سابقاً على علاقته بالنساء فى حياته حالياَ..
الكلام عن مرض فرط الحركة وقلة الانتباه ADHD بقى (تريند).. الطرح والتكرار القهرى والدفاعات النفسية بقت مصطلحات متداولة.. العلاقات وتعقيداتها ومستوياتها بقت أوضح من الوضوح..
مش بس كده..
احنا عندنا مسلسل كامل اسمه (خلى بالك من زيزي) كاتباه إخصائية نفسية مبدعة اسمها الأستاذة (منى الشيمى)، تحت إشراف العبقرية (مريم نعوم)..
ومسلسل آخر بيقدم درس يومى مجانى فى التحليل النفسي اسمه (لعبة نيوتن)..
ومسلسل ثالث ملهم بيستعرض وبمنتهى الهدوء الثقة علاقات الأبناء بآباءهم وأمهاتهم وتأثيرها المباشر وغير المباشر عليهم، اسمه (ولاد ناس)..
بعد ما كان المريض النفسي بيطلع فى صورة حد مجنون.. والطبيب النفسي بيطلع فى صورة حد أهبل..
ده كله غير الوعي النفسي المرتفع جداً واللى عمال يزيد كل يوم بين أطراف أى علاقة.. قبل، وأثناء، وحتى بعد انتهاءها لو انتهت..
والبرامج والحلقات والكتب والفقرات.. ولسه..
ورغم تخوف كثير من الزملاء والأصدقاء المتخصصين والغيورين على مهنتهم -ولهم كل الحق- من أن يتحول الأمر إلى تسطيح وسوء استخدام ودوشة وزيطة بدون عمق حقيقي وفائدة ملموسة.. إلا إنى شايف إنه حتى لو بدا الأمر أحياناً كذلك.. ومع كل الحذر والتنبيه الواجب.. فاللى بيتعلم لغة جديدة، بيحاول يستخدمها، ويجربها، ويمرن نفسه عليها بشتى الطرق، لغاية ما يتقنها، ويتمكن منها، وتصبح من مكونات حياته الأساسية.. شوية وقت.. وشوية صبر.. وكل حاجة هاتاخد مكانها وحجمها.. وميزانها الصائب ونصابها المعقول..
***
أبريل 2015
أول مرة أكتب مقال عن تحليلي النفسي لأحد مشاهد الدراما كان فى 2015، كان عن أحد مشاهد (على- محمد فراج) و (هانيا- جميلة عوض) فى مسلسل (تحت السيطرة).. وعلاقة المشهد بظاهرة (التكرار القهرى)..
المقال عمل ردود فعل فوق ما كنت أحلم أو أتوقع.. وأصبح فصل مهم فى أول كتاب ينشر لى (الخروج عن النص)..
وبدأت بعدها سلسلة متتالية من المقالات والفصول التى بتتناول تحليل أو رؤية نفسية لأحد المشاهد أو الأفلام أو كلمات إحدى الأغنيات أو الأزجال.. وهو ما سهل كثيراً فى عرض وتوصيل بعض الأفكار والمعلومات العلمية المعقدة لشريحة كبيرة من القراء..
اليوم.. أنا أقرأ -وبكل سعادة- لمن كنت أكتب لهم.. وأتابع -وبكل فرحة- من كانوا يتابعوننى.. وأُعجب وأنبهر بهم تماماً كما كانوا يفعلون، وربما أكثر..
أنا مبتهج جداً بهذه الحالة المجتمعية الجديدة.. وسعيد جداً بهذا الوعي النفسي المتصاعد.. وفخور جداً إنى كنت أحد من ساهموا فيه..
يا مستر (كلوفر):
الوعي النفسي -وليس العلاج النفسي فقط- هو عملية إبداعية..
يا من قرأتم، واتفقتم أو اختلفتم معى.. لا تنسوا أن تكتبوا على قبرى متى مت:
“فتح لنا باباً من الوعي”.
د. محمـد طــه