*ملحوظة: التحليل ده مش تحليل لشخص المطرب أو الكاتب أو المخرج.. هو فقط تحليل للحالة الغنائية اللى بتعبر عنها الأغنية.
استغربت جدا لما لقيت الفيديو بتاع الأغنية دى فيه تلات شخصيات: شاب وطفل ورجل كبير السن.. واستغربت أكتر من كمية الناس اللى بعتولى الأغنية علشان أحللها أو أكتب عنها.. تعالوا نشوف هو فيه إيه؟ ليه الأغنية دى سمَّعت كده؟ ليه السوشيال ميديا امتلأت فجأة بكلمات الأغنية وصورها والتعليقات عليها؟
***************************************
نظرية (التحليل التفاعلاتى) النفسية بتقول إن كل واحد فينا عايش جواه –فى نفس الوقت- ثلاث أشخاص.. طفل صغير مليان براءة وتلقائية وحرية وأحلام.. صوته عالى وحركته خفيفة وبيقول (لأ) قصاد أى أذى.. بيحب نفسه وبيحب الحياة ومصدق إنه يستاهل.. الطفل ده بيظهر فى أوقات اللعب والهزار.. الفسح والخروجات.. والحفلات والأفراح.. وغيرها..
جوانا برضه حد كبير.. زى ما يكون أب أو جد.. بيقدم لينا ولغيرنا النصح والإرشاد.. والحنية والعطاء.. والتفهم والسماح.. وأحياناً.. القسوة والصرامة..
وجوانا كمان شاب فى مقتبل العمر.. بيعيش الواقع كما هو.. ويتعامل مع الحقيقة المجردة.. يختبر الحياة.. ويتعلم منها.. ويحط خطط للمستقبل..
التلاتة عايشين مع بعض فى نفس الجسم وكأنهم عايشين فى شقة مفروشة فيها تلات أوض.. وبيتبادلوا القيادة والأدوار على حسب كل موقف.. وكل تفاعل أو خبرة إنسانية..
طبعاً تفاصيل كل واحد فيهم وتاريخه وجاى منين ورايح فين.. موجودة فى مقال سابق لى اسمه (التلاتة اللى عايشين جواك).. وفيه كتير من تطبيقات النظرية دى فى علم النفس والطب النفسي والفن والأدب..
*******************************************
التحليل النفسي للأعمال الفنية هو أحد أهم فروع العلم والفن معاً.. كتير من الأعمال الأدبية والفنية بيظهر فيها أكتر من جزء من تركيبتنا النفسية مع بعض.. من أشهر الأمثلة الأدبية على النظرية دى تكرار ما يسمى (بمخاطبة الصاحبين) فى الشعر القديم.. واللى كان أحياناً بتبدأ فيه القصائد بإن الشاعر يتكلم ويوصف ويخاطب اتنين مانعرفهومش (ولغاية النهاردة محدش عارف هما مين).. زى (اذكرا لي الصبا وأيام أنسى).. أو (خليلى عوجا اليوم حتى تسلما).. وكأن واحد من التلاتة اللى جواه بيكلم (بشكل غير واعى) الاتنين التانيين.. وهكذا..
*******************************************
أغنية (دارى يا قلبى) أغنية مؤلمة.. مش بس علشان ناس كتير شايفينها بتعبر عنهم.. أو إنها -بالمقارنة بأغانى سابقة لنفس المطرب- بتوصف خفوت الأحلام وانطفاء الأمانى.. لأ.. أنا شايف أكتر شئ مؤلم فيها هو إنها طالعة من كل جزء فى تركيبته الإنسانية.. من كل ركن فى بناءه النفسي.. من كل أبعاد ومستويات وجوده (كحالة غنائية وآداء فنى طبعا مش كشخص لأنى ماعرفهوش شخصيا ومش من حقى أعمله أى تحليل نفسي).. وده شئ صعب وموجع للغاية.. الأغنية دى اشترك فى غناءها كل سكان الغرف النفسية بداخله.. وبداخل معظم الناس اللى اتأثروا بيها.. أو اللى سمًعت فيهم..
الأغنية دى بدأها الطفل.. وكملها الشاب.. وأنهاها العجوز..
*******************************************
مالك مش باين ليه؟ قلبك تايه من مدة كبيرة
خايف تتكلم ليه؟ فى عيونك حيرة وحكاوى كتير
فى البداية.. المطرب بيوصف حال الطفل اللى جواه.. اللى بدل ما يكون ظاهر ومعبر عن نفسه.. هو مختفى ومش باين.. بدل ما يكون موجود وحاضر.. هو تايه ومستتر.. بدل ما يكون متطمن ومتونس.. هو خايف وساكت.. بدل ما تكون عينيه فرحانة وسعيدة.. هى مليانة حيرة وحكايات..
متغير ياما عن زمن قافل على قلبك البيبان
حبيت وفارقت كام مكان عايش جواك
ويتنقل بسرعة لوصف العجوز داخله.. وكأنه بيوصف حاله فى المستقبل.. وحيد.. منعزل ومغلِق لكل الأبواب.. مليان بقصص الحب والفراق.. فراق نفسه.. وفراق الناس.. وحتى فراق الأماكن..
إحساسك كل يوم يقل وتخطي وخطوتك تذل
من كتر ما أحبطوك تمل فين تلق دواك
بتودع حلم كل يوم تستفرد بيك الهموم
وكله كوم والغربة كوم والجرح كبير
مبتديش حاجة اهتمام أهلا أهلا سلام سلام
بقا طبعك قلة الكلام ومفيش تفسير
ويجي الدور عليه فى إنه يوصف حال الشاب الحزين داخله.. الشاب اللى بيفقد كل يوم حتة من إحساسه.. ويودع كل ليلة حلم من أحلامه.. الشاب اللى خطواته اختلت وفقد توازنه.. اللى اتعرض للإحباط والانكسار والغربة.. اللى بيدور على دوا لجروحه ومش لاقي.. الشاب اللى زهق.. ويأس.. ومابقاش فيه حاجة تفرق معاه.. الشاب اللى بطل يهتم.. وبطل يتكلم.. وبطل حتى يدور على تفسيرات..
وفى جملتين قصيرين.. يرد عليه الشاب اللى جواه بنفس النبرة.. ويعبرله عن وجعه من التعلق بالأشياء.. ثم فراقها.. وعن فشله المتكرر فى محاولات اخفاء حزنه عن الناس.. الشاب ده.. حتى حزنه.. مش عارف يداريه..
داري داري يا قلبي مهما تداري
قصاد الناس حزننا مكشوف
وأهو عادي عادي محدش في الدنيا دي
يتعلق بشي إلا وفراقه يشوف
*******************************************
أحد التفسيرات العميقة لمرض الاكتئاب هو إن الطفل الداخلى اللى جوانا بيتحول من (طفل حر) إلى (طفل مذعن/ متكيف).. يعنى طفل فقد شغفه بالحياة.. فقد تلقائيته واهتمامه.. فقد فرحته وحركته وانطلاقه.. طفل قرر يتكيف مع واقعه المؤلم.. ويذعن لقسوة الحياة.. طفل فقد طفولته..
مش هأقول إن الأغنية دى بتعبر عن واحد مكتئب.. لأنى كده هاكون باختزل مشاعر إنسانية عميقة فى تشخيص طبى قاصر.. الاكتئاب بالنسبة للى بتوصفه الأغنية دى رفاهية.. اللى موجود فى الأغنية ألم .. حزن داخلى.. انطفاء نفسي بعد توهج..
أنا شوفت مشهد نهاية متخيل لهذه الأغنية بيجمع التلات أجيال فى غرفة نفسية واحدة.. وكأن الشاب والكهل اللى جوا (المطرب والناس اللى اتأثروا بكلامه) بيوصلوا للطفل داخلهم رسالتين هما خلاصة خبرتهم المأسوية وتجربتهم القاسية فى الحياة..
الرسالة الأولى بتقول للطفل (على لسان الشاب): انت هاتفضل وحيد.. كل صورة هاتاخدها فى يوم من الأيام مع حد هايغيب عنك وهايفارقك.. كل حد هاتعرفه وهاتقرب منه هايسيبك من غير سبب.. مافيش داعى تحن وتبص وراك.. انت زى اللى راكب قطر.. وسط مسافرين.. كل واحد هاسيبك.. وينزل فى محطته..
كل اللي معاك في الصورة غاب وطنك والأهل والصحاب
كم واحد ودع وساب من غير أسباب
شايف في عينيك نظرة حنين بتحن لمين ولا مين
طول عمرها ماشية السنين والناس ركاب
والرسالة التانية بيوصف فيها الكهل سنين عمره اللى اتسرقت، و ذكرياته اللى بتتمحى مع الأيام.. بيوصف مشوار حياته اللى فوجئ بإنه ماعاشهاش.. وخطوات طريقه اللى فارق فيه كل حاجة.. بيوصف العشم.. والنسيان.. وفقدان الأمل.. والموت..
مع دقة عقرب الساعات بتموت جوانا ذكريات
عشمنا قلوبنا باللي فات ونسينا نعيش
كان مكتوب نمشي الطريق ونفارق كل مدى شيء
أتسرق العمر بالبطيء ورسي على مافيش
*******************************************
مش هأقول إن الأغنية دى أغنية كئيبة.. لكنها أغنية مؤلمة.. وقاسية.. ومخيفة..
مؤلمة لأنها بتوصف بوضوح شديد فقدان الأمل..
وقاسية لأنها -حتى فى تصويرها- بتخاطب تلات أجيال..
ومخيفة علشان فيه ناس كتير شايفين إنها بتعبر عنهم..
موافق على جمال التعبير والموسيقى والتصوير..
موافق على عمق الفن وقدرته على الاختراق والوصول..
موافق على وصف الحركة الداخلية بدقة..
لكنى مش موافق على روح اليأس وفقدان الأمل..
ومش موافق على العيون المطفية والنبرة الحزينة..
ومش موافق على رسائل وأد طفلنا الداخلى ودفنه حياً..
يا كل من فقد الأمل..
أنت الأمل..
يا كل من ملك حلماً..
أنت الآداة الوحيدة لتحقيق حلمك..
يا كل طفل صغير..
لا تصدقنى لو أتيتك من المستقبل حاملاً إليك أية رسالة يأس..
د. محمد طه