(1)

غالبًا المشهد ده من مسلسل (تحت السيطرة- رمضان 2015) هايفضل متخزن في عيون وعقول وقلوب كل اللي شافوه وحتّى اللي سمعوا عنه لفترة طويلة جدًا..

(علي) رايح يشتري مخدرات من ديلر في قلب الصحراء مقابل إنه يبيع له الموبايل.. يرجع (علي) للعربية ويقول لـ (هانيا): الموبايل معجبهوش.. خديه وجربي إنتي..  تنزل (هانيا) من العربية وتروح للديلر.. عيون (علي) تتملي دموع.. ويُفاجأ الجميع بإن (علي) بيدوَّر عربيته ويلف.. ويمشي.. ويسيب مراته (هانيا) للديلر يعتدي عليها في مُقابل المخدر.. (علي) بكل خِسة ونذالة.. باع (هانيا).. ورماها في الصحرا.. بالليل.. لأحد ذئاب البشر..

المُفاجأة الأكبر بقى.. والأكثر إدهاشًا وذهولًا.. إنه بعدها بكام ساعة.. باب بيت (علي) يخبط.. يفتح (علي) الباب.. يلاقي (هانيا) قدامه.. راجعااااااااااااااااااااااااااله.. بعد اللي عمله فيها ده.. وبالمناسبة.. دي مش أول مرّة ترجعله.. بعد ضرب أو بعد إهانة أو شتيمة أو بهدلة..

السؤال المُلِّح بقى: ليه (هانيا) رجعت لـ (علي)؟

طبعًا مُعظم النّاس شايفة إنها رجعتله لأنها مالهاش غيره.. أو إنها رجعت علشان المخدرات.. أو إن (علي) هو الوحيد اللي بيريحها نفسيًّا.. كل ده صحيح إلى حدّ ما.. بس على مستوى سطحي شوية.. إنّما فيه أسباب تاني كتير.. على مستويات نفسيّة أعمق..

وده هايخليني أرجع معاكم بالزمن لورا شوية..

(2)

في مرّة دخلنا أنا واتنين أصحابي فيلم سينما كان اسمه The   Others..  فيلم مُرعب ومُخيف جدًا.. لدرجة إنه في أحد مشاهد الفيلم الأخيرة، مُعظم النّاس اللي في السينما صرخوا بصوت عالي أوي.. لما اكتشفوا إن كل أبطال الفيلم كانوا (أموات)، وإن اللي كنا متصورين إنهم أشباح وأرواح طلعوا (أحياء).. وكان أحد أصحابي دُول هو صاحب الصرخة الأعلى والأطول والأكثر رعبًا في السينما كلها.. المهم.. بعد ما خرجنا.. قرّرنا ندخل فيلم تاني علشان نغير المُوود.. وكانت المفاجأة إن صاحبنا ده كان مُصمّم إنه يدخل نفس الفيلم مرّة تانية.. أيوه.. نفس الفيلم.. رغم إنه بالنسبة له كان تجربة مُخيفة ومُرعبة وقاسيّة جدًّا..

أعتقد إن أول خيط في إجابة السؤال بيبدأ من هنا..

الخيط التاني كانت ملاحظة مهمة لاحظها كتير من علماء النفس والمُعالجين النّفسيين من أول فرويد لغاية دلوقت.. وهي إن بعض النّاس عندهم نزعة شديدة وميل غريب لتكرار بعض التجارب المُؤلمة اللي في حياتهم.. يعني حد يتعرض لخبرة سيئة.. يقوم يحاول بعدها يُهيئ كل الظروف والأحداث والأشخاص (نفسهم أو زيهم) ويكرر نفس الخبرة السيئة دي تاني.. واحدة تمّ الاعتداء الجنسي عليها وهي صغيرة.. تكبر ويتحوّل سلوكها لواحدة بتدور على اللي ينتهكها جنسيًا.. أو تشتغل فتاة ليل وتتفنن في بيع نفسها وجسمها.. واحد اتظلم واتهان واتعرض لمعاملة قاسيّة.. بعد شوية تلاقيه بيدور على اللي يظلمه ويروحله.. وعلى اللي يعامله بقسوة ويشبط فيه.. حد تاني دخل في تجربة عاطفيّة مُؤلمة وانتهت بالفشل.. يقوم لما يجي يدخل في تجربة تانية.. يختار سِكة زي السِّكة القديمة.. وشخصيّة زي الشخصيّة اللي فاتت.. ويكرر نفس التجربة.. ويعيد نفس الألم.. وينتهي إلى نفس النهاية..

ده اسمه في التحليل النفسي (التكرار القهري) Repetition Compulsion.. ، وبيكون ليه عادة سبب من أربعة..

الأول هو إن الواحد يعيد سيناريو نفس الأحداث القديمة بكل تفاصيلها وأدوارها وظروفها علشان نفسه ينهيها نهاية مُختلفة غير اللي انتهت عليها قبل كده.. يعني مشهد صعب في حياته ومش محلول جواه.. يعيد صنعه وتركيبه كل شوية مع شخص أو أشخاص جُداد يلبسهم الأدوار القديمة (أو حتى نفس الأشخاص القديمة) علشان يحل معاهم اللي معرفش يحله قبل كده.. ويعمل نهاية جديدة وسعيدة ومُريحة بدل النهاية البائسة السابقة..

السبب التاني هو إن الواحد غالبًا بيكون في تجاربه المُؤلمة الأولى ضعيف ومُضطّر ومش بإيده أي حيلة.. وكل حاجة بتكون اتعملت غصب عنه ومش بإرادته.. وحسّ وقتها بالذُل والانكسار والمهانة.. فيجي دلوقت يعمل كل ده تاني.. بكل حذافيره وتفاصيله.. بس بمزاجه وإرادته وكامل وعيه.. يعني تبقى المرة دي (بيدي لا بيد عمرو).. فيحس (ولو إحساس مُزيف) إنه له السيطرة على الأمور وله التحكم في الأحداث..

السبب التالت هو إنه كان في اللى حصله قبل كده (الضحيّة).. كان مُستسلم ومغلُوب على أمره.. فيرجع المرّة دي لينتقم.. يرجع شريط حياته لورا ويكرر نفس التجربة مع نفس الحد (أو مع حد جديد) بس يكون المرّة دي هو (الجانِي).. وياخد بتاره..

السبب الرابع بقى (ومش الأخير) هو إن كتير من اللي بيتعرض لتجارب وخبرات مُؤذية وقاسية في حياته بيحس بالذنب إنه ما دافعش عن نفسه.. أو إنه هو اللي وصَّل نفسه لكده.. أو إنه هو اللي ساعد الطرف التاني إنه يُؤذيه.. ودَه بتحسّه كتير من البنات ضحايا التحرش والاغتصاب (بفعل عوامل نفسية ومجتمعية وثقافية كتير).. فيبدأ يتنقم من نفسه.. ويعذبها.. ويجلدها.. بتكرار نفس الأحداث.. واستدعاء نفس الأذى.. واستعذاب نفس الألم..

فيه بعض الناس بتستلذ بتعذيب نفسها.. وجلد ذاتها.. ناس بتعمل دماغ من الألم.. وبتستعذب الوجع.. دُول بكل بساطة.. بينتقموا من نفسهم.. أو بينتقموا من غيرهم في نفسهم..

(3)

أنواع العلاقات البشرية كتيرة جدًا.. وطبيعتها مُعقدة لأقصى حد.. ومن أصعب العلاقات اللي مُمكن نشوفها هي العلاقة اللي البنت بتختار فيها صاحب أو حبيب أو زوج يكون   Abuser (مُستغل)، أناني وطماع ومؤذي ليها نفسيًّا وعاطفيًّا وجسديًّا.. مش بس كده.. ده هي في العلاقة دي بتكون مُتمسكة بيه جداااا.. وتحارب الدنيا كلها علشانه.. ولو سابها ترجعله.. ولو غاب عنها تحنّ له.. وما تستحملش فُراقه ولا بُعده أبدًا.. برغم البهدلة والاستغلال والأذى.. لا وكمان إيه.. في حالة ما يفترقوا عن بعض لأي سبب.. تدور على حد له نفس المواصفات.. وترتبط بيه.. وتُعيد الكرَّة من الأول.. بنفس تفاصيلها..

إحدى مريضاتي كانت بتوصف العلاقة دي وأصولها وأسبابها وأثرها في حياتها، أحسن من أي كتاب أو مرجع علمي:

 أثناء طفولتها أبوها كان غايب.. مسافر.. مش موجود.. كل علاقته بمراته وبيته إنه بيشتغل وبيجيب فلوس.. أُمها كانت موجودة بس مش موجودة.. زي الحاضر الغائب كده.. يعني آه هي موجودة بجسمها معاها في بيت واحد.. لكنها مشغولة بنفسها واهتماماتها وأصحابها وتليفوناتها أكتر من انشغالها ببنتها وتفاصيل حياتها.. الرسالة النفسيّة اللي وصلت للمريضة في البيت ده هي: إنتي مش مُهمة.. إنتي ما تستاهليش إننا نهتم بيكي.. إنتي وجودك مش فارق معانا.. أب وجوده/غيابه كان مُؤذي.. وأم وجودها/غيابها كان برضه مُؤذي..

الطفل اللي توصله رسايل نفسية بالشكل ده.. غالبًا مش هايصدق عن نفسه طول حياته غير حاجة واحدة بس.. إنه ما يستاهلش.. وإن وجوده مش فارق مع حد.. ومش بعيد يتربى جواه إحساس رهيب بالذنب.. على حاجة هو ما يعرفهاش أصلًا..

الطفل هايخزن السيناريو ده جواه.. وهايكرره طول حياته.. علشان يا إمّا يحله.. يا إمّا يؤكده.. هايدور على ناس ليهم نفس مواصفات الأب أو الأم.. ويعمل معاهم علاقات إنسانيّة عميقة.. ويا إمّا يوصّلوله رسايل عكس اللي وصلت قبل كده (وغالبًا ده مش بيحصل).. فيصدق إنه يستاهل.. وإن وجوده فارق.. ومُهم، وتتحل العُقدة.. أو يوصّلوله نفس الرسايل القديمة (وده الأغلب الأعم).. ويتأكد عنده إنه ضحيّة.. وإنه غير مسئول..

ده اللي عملته المريضة دي بالظبط..

وتبدأ هنا باقي الخيوط تتجمع..

المريضة قررت إنها تكرر مشهد عيلتها بكل تفاصيله مع الشخص اللي كانت بتحبه..

كانت بتدور على أب.. له نفس مواصفات أبوها.. الأنانى الطماع المُؤذي (مع اختلاف شكل الأنانية والطمع والأذى) .. وأول ما لقيته.. مسكت فيه.. واتعلّقت بيه..

كانت مصدقة عن نفسها إنها ما تستاهلش.. وقرّرت تكمل حياتها ما تستاهلش.. وتدور على اللي يثبت لها ده ويؤكد هولها طول الوقت.. علشان ده اللي عاشته.. واتعوّدت عليه..

كانت مستنيّة تحسّ مع حبيبها – زي ما كانت مستنيّة تحسّ مع أبوها- إنها موجودة.. حتى لو كان التمن إنه يؤذيها.. بس هو أذاها.. ولغى وجودها.. زي ما أبوها عمل بالظبط..

في أعمق أعماقها، كان عندها احتمال ضعيف جدًّا إنها تغيّره وتخليه بني آدم بجد.. لأنّها معرفتش تغيّر أبوها وتخليه بني آدم بجد.. بس ده ما حصلش. وما كانش هايحصل..

كانت بتنتقم من أبوها وأمّها ومن إهمالهم وأذاهم ليها.. وكانت مُصرة على الانتقام.. بالرغم من كل فرص النجاة..

كانت بتنتقم منهم في نفسها.. وبتؤذي نفسها بالنيابة عنهم.. كانت بتنتحر بالبطيء.. وبتستعذب ده وبتستلذ بيه..

كانت عاوزة تثبت لنفسها طول الوقت إنّها ضحية.. زي ما كانت وهي صغيرة.. بس في الحقيقة.. هي دلوقت مش ضحية.. بالعكس.. هي دلوقت جانية على نفسها.. هي دلوقت مسئولة ومختارة.. وكل مرّة كانت بترجع فيها لحبيبها كانت بتعيد اختيارها ليه ولدورها في العلاقة دي بكامل وعيها وكامل إرادتها..

هي اتظلمت زمان.. بس هي اللي بتظلم نفسها دلوقت..

عاوز تفهم أكتر؟

سيبك من كل الكلام ده.. وشوف كلمات الأغنية دي (شيرين- فيه حد):

فيه حد مُمكن يبقى مش قادر يعيش من غير ألم

فيه حد لو سابه اللي ظلم يبقى هيموت من الندم

خلتنى أخاف على حبي ليك أكتر ما أخاف على نفسي منك

خلتني أرتاح للعذاب وأنا بين إيديك علشان بخاف من عذاب البُعد عنك

وقفت حياتي عليك وبس

وكأني بفرح لو لقيت قلبي اتظلم

أعتقد إنه مافيش أوضح من كده..

خليك فاكر بقى..

كل مرّة انت بترجع فيها للى بيأذيك..

فانت اللي اخترت ده.. وانت اللي قررته.. وانت مسئول..

كل مرّة بتحِن فيها للي يحسّسك إنك ما تستاهلش..

فانت اللي اخترت ده.. وانت اللي قرّرته.. وانت مسئول..

كل مرّة بتروح فيها للي يقلل من أهمية وجودك..

فانت اللي اخترت ده.. وانت اللي قررته.. وانت مسئول..

انت.. مسئول.

د. محمد طه