كل واحد فينا بيتولد وجواه احتياجات نفسية بسيطة جدًا..

احتياج إنك تتقبل.. إنك تتحب.. إنك يُهتَم بيك.. إنك تُحترم.. إنك تتشاف.. إنك تتحس.. إنك تتقدّر.. إنك تقول لأ.. وغيرها..

وبتكون الوظيفة الأساسية للأم والأب أثناء التربية هي تلبية الاحتياجات دي بشكل مُناسب وبقدر كافي.. علشان يحصل النمو النفسي السليم وتكتمل الصحة النفسية السوية..

لكن في الحقيقة..مش ده اللي بيحصل دايمًا..

الطفل عادةً بيكتشف أثناء التربية إنه علشان تتم تلبية احتياجاته الأساسية لازم يكون فيه مُقابل.. يعني (اسمع الكلام علشان أحبك).. (اشرب اللبن علشان تبقى شاطر).. (ماتقولش لأ علشان ربنا يحبك).. ده غير رسايل كتير بتوصل بتصرفات وسلوكيات ونظرات (وساعات طبعًا إيدين ورجلين) الأب والأم.. فيتحول الحب إلى (حب مشروط) والقبول إلى (قبول مشروط) والاحترام إلى (احترام مشروط).. وهكذا.. كل حاجة بشروط.. كل حاجة بمقابل..

يعمل إيه الطفل الغلبان بقى علشان يتحب ويتقبل ويتحسّ ويُهتم بيه؟!

يعمل حاجة صعبة جدًّا..

يضطّر إنه يدفع التَّمن..

يضطّر إنه يرضى بالمُقابل..

يضطّر إنه ما يبقاش نفسه..

يضطّر يبقى زي ما هُما عاوزين..

لأنّه.. ببساطة شديدة.. محتاج..

يقرر الطفل في سن مُعين (النّظريات والأبحاث بتقول حوالي خمس سنين) إنه يعمل عملية تجميل لنفسه.. آه عملية تجميل.. علشان يناسب الوضع المُحيط بيه.. يعني يعدّل نفسه ويظبطها على مقاس اللي حواليه.. عاوزينه مقاس 37 يبقى 37، عاوزينه مقاس 39 يبقى 39.. علشان يوصله منهم بعض الحب، وقليل من الاهتمام، ورُبما شيء من الاحترام والتقدير لإنسانيته واحتياجاته.

يقرر الطفل في السن دي إنه ما يكونش نفسه اللي اتولد بيها.. ويكون النفس اللي هُما بيطلبوها منه.. عاوزينه يسمع الكلام.. فيسمع الكلام.. عاوزينه ما يقولش (لا) وما يوجعش دماغهم.. يبطل يقول لأ ويبقى (مُؤدب).. عاوزينه ما يكونش تلقائي ويتحول لآلة صمّاء بكماء.. ماشي.. عاوزينه بعد شوية يحفظ الدروس ويجيب الدرجات النهائيّة على حساب فرحته وأوقات لعبه وإبداعه.. وماله.. وشوية كمان يبقوا عاوزينه يطلع أول الجمهورية في الثانوية العامة ويدخل كلية الطب أو الهندسة ويحقق أحلام وطموحات أبوه وأمه وخاله وعمته.. حاضر.. ده طبعًا بعد كثير من المقاومة والصراع اللي بينتهي غالبًا بالاستسلام..

يقرر الطفل بكل بساطة إنه يشوّه نفسه لحساب الآخرين.. علشان يرضيهم..

يقرر يتكيف مع الوضع القائِم.. والواقع المفروض عليه.. علشان يعفي نفسه من الأذى النفسي، وساعات البدني..

يقرر يدفن (نفسه الحقيقية) الفِطرية الخالصة اللي خلقها ربنا، علشان يحميها ويحافظ عليها في مكان سري عميق.. ويعيش بـ(نفس مُزيفة) مُصطنعة، تعرف تتعامل مع اللي حواليه..

وتفضل (نفسه الحقيقية) حيّة نابضة.. ولكنها كامنة ومستخبية جواه..

مستنية تطّمن.. وتتونِس.. وتحسّ بالدفا.. علشان تخرج.. وتحيا من جديد..

نخلينا صُرحا مع بعض.. مين ما اتعملش معاه كده؟ ومين ما عملش كده في أولاده؟

اللي هايدور هايلاقي إنه (غالبًا) كل حد مِننا  دفن جزء (واحد على الأقل) من نفسه الحقيقية في إحدى مراحل حياته لسبب أو لآخر.. اللي دفن تلقائيته.. اللي دفن شعوره بالحرية.. اللي دفن طفولته وفرحتها وانطلاقها.. اللي دفن صوته العالي وقولانه لكلمة (لأ).. اللي دفن بعض قدراته وإمكاناته.. وطبعًا في مجتمعنا (وفي غيره).. اللي اضطّرت إنها تدفن أنوثتها.. واللي اضطر إنه يدفن رجولته..

ويعيش الواحد حياته كلها بـ (نفس مُزيفة) طافية على السطح.. و(نفسه الحقيقيّة) مدفونة في القاع..

محتاج توضيح؟ عاوز أمثلة؟

لا.. مش هاديك أمثلة..

أنا هاطلب منك تبُص حواليك (بلاش يا سيدي تبُص لنفسك)..

انت عارف الطفل اللي صوته واطي وبيمشي يبُص في الأرض؟ اللي بيقولوا عليه (مُؤدّب) وبيسمع الكلام وما بيقولش (لأ).. عارف ده مُمكن يكون دفن إيه؟ مُمكن يكون دفن طفولته الحقيقية وتلقائيتها وحريتها وقدرتها على الاعتراض والمواجهة وأخذ الحق.. وطلع مكانها كائِن مُستسلم مُسالِم.. مالهوش لا لون ولا طعم ولا رائحة (ده مش معناه طبعًا إن الطفل المُتمرد العنِيد هو الطبيعي)..

عارف الطالب اللي مش بيعرف غير المُذاكرة.. وهدفه الوحيد في الحياة إنه يجيب الدرجة النهائيّة ويطلع الأول على العالم.. اللي مش بيعرف يلعب.. ولا يعرف يهزر.. اللي مش بيخرج مع حد.. ولا يحب يقعد مع حد.. لا يطلع رحلة.. ولا يسافر سفرية.. الشاب اللي علاقته بالكتاب أهم من علاقته بنفسه حتى.. أهو ده ممكن يكون دفن إبداعه وحيويته.. وخرَّج مكانهم بني آدم خافِت مطفي..  الجزء الوحيد الحي فيه هو ذاكرته..

عارف البنت اللي بتلمع (زي الدهب الفالصو كده)؟ البنت اللي بتبالغ في إظهار مفاتنها وإمكانيات أنوثتها.. ضحكة هنا.. ونظرة هناك.. خطوة هنا.. وغمزة هناك.. اللي بتلعب كل يوم بواحد.. وتدخل كل ليلة في قصة حب.. البنت دي غالبًا دفنت أنوثتها الحقيقية.. المليانة حنان وعطاء ودفا وقُرب وحياء وسماح.. وطلعت مكانها أُنوثة مُزيفة مليانة ألوان وبهرجة وميوعة وسطحية وتلاعب ورغبة عارمة في الانتقام من كل الرجالة..

عارف الراجل اللي شكله خشن (أوي).. وما يعرفش غير الشّخط والنّطر؟ اللي بيستعرض عضلاته على الضعفاء.. ويستقوي على اللي ما لهوش حيلة.. اللي بيفتري على الغلابة.. ويمد إيده أو لسانه على القريب والبعيد.. ده غالبًا دفن رجولته الحقيقية اللي كلها جدعنة وشجاعة وشهامة وإصرار وصمود.. واستبدلها برجولة مُزيفة كلها غرور وافترا واستعراض للقوى..

شوف بقى اللي دفن مشاعره وتحوّل إلى آلة مش بتحس.. واللي دفن تفكيره وبقى مش بيفهم رغم ارتفاع معدل ذكائه.. واللي دفن إبداعه.. واللي دفن.. واللي دفن.. واللي دفن..

عارف إيه بقى أكبر مشكلة وسط كل ده؟ أكبر حتى من الدفن نفسه..

المشكلة إن بعض المُجتمعات (وطبعًا بعض البيوت والعائلات) بتشجع أبنائها على دفن الأجزاء المُهمة الثمينة الغالية دي من أنفسهم.. علشان يعرفوا يعيشوا فى المجتمعات (أو البيوت) دي.. مش بس كده.. دُول بيسقفولهم ويكافئوهم ويكرموهم لمّا يعملوا كده.. تصوّر؟!

يعني بيوتنا الأصيلة بطريقة تربيتها العظيمة بتشجع جدًّا الطفل الهادي، المُسالِم، اللي زي النسمة، اللي بيسمع الكلام، اللي مش بيقول (لأ)، اللي بيشرب اللبن علشان أبوه وأمه يرضوا عنه..

ومدارسنا الجميلة وتعليمنا الإبداعي بيحب جدًّا الطالب الحفيِّظ الصّامت المُصمت، اللي بيذاكر الكتاب المُقرر من الجلدة للجلدة، ويحل نماذج الامتحانات السابقة، ويُبخ كل المعلومات اللي عنده في ورقة الإجابة بمجرد ما يشوف ورقة الأسئلة.. ويغرق في شِبر مية لو جاله سؤال من بره المنهج المُقدس..

وتليفزيوننا الرائع.. وسينيماتنا الخلّاقة.. وكليباتنا الحلوة بتتفنن بكل إبداع في نشر مظاهر الأنوثة المُزيفة بكل تفاصيلها.. والترويج ليها بكل إتقان.. وحُقن الشباب والفتيات بيها في جرعات مُنتظمة وبشكل يومي..

وده كله كُوم.. ونظرة كل حاجة وكل حد وكل حِتة (من غير تعميم طبعًا) في المُجتمع والبيت والغيط للرجولة كُوم تاني.. راجل يعني صوت عالي.. راجل يعني ما تبكيش.. ما تعيطش.. راجل يعني نظرة قاسية.. راجل يعني عنف وعضلات.. وطبعًا سِت يعني صوت واطي وبَصة في الأرض وطاعة عميَاء وخُنوع واستسلام ورضا بالقليل وقِلة حِيلة وذُل ومهانة ما لهاش حدود..

زيف.. في زيف.. في زيف..

تشويه ورا تشويه ورا تشويه..

دفن.. ثم دفن.. ثم دفن..

إجرام.. قبله إجرام.. وبعده إجرام..

فنون من الزيف.. طبقات من التّشويه.. مستويات من الدفن.. وأبعاد من الإجرام في حق النفس.. قبل حق الغير..

أنا مش مُفسِر للقرآن ولا شيخ ولا أدّعي ذلك.. بس إحنا محتاجين نعيد قراءة الآية دي من قرآننا المُعجز السابق لكل عصر وأوان – في ضوء الكلام السابق: “وإذا الموءودةُ سُئِلتْ.. بأي ذنب قُتلت”

 سورة التكوير (آية 8 و9)

الوأد مش بس للبنات الصغار أيام الجاهلية.. الوأد ظاهرة إنسانيّة بتتكرر كل يوم.. كُل نفس حقيقية مُمكن تتعرض للوأد عن طريق التربية القاسيّة.. كُل تلقائيّة/ حيويّة/ طفولة/ إمكانات حقيقيّة مُمكن تتعرض للوأد عن طريق رفضها في الصغر.. كُل أنوثة حقيقيّة مُمكن تتعرض للوأد بألف طريقة وطريقة.. كل رجولة حقيقية مُمكن تتعرض للوأد بأشكال مُختلفة.. كُل جزء من نفسك مُمكن يتعرض للوأد في البيت.. أو في الشارع.. أو في المدرسة.. أو في المُجتمع..

خُد نفس عميق بقى.. وفتَّح عينك على آخرها.. واقرا اللي جاي كويس:

إيه بقى اللي يخلي (النّفس الحقيقيّة) اللي اتدفنت تطّمن وتتونِس وتقرّر تعود للحياة من جديد؟ إيه اللي يخليني أبقى إنسان حقيقي كامل عايش بنفسي الحقيقيّة كُلها بدون تشويه أو اختزال أو انتقاص.. إيه اللي يساعد فطرتي إنها تزدهر وتُورد وتنوّر من جديد..

أقولك  يا سيدي..

اللي يقدر يعمل كل ده، هو علاقة..

أيوه.. علاقة..

علاقة إنسانيّة حقيقيّة.. توصلك فيها رسايل عكس كل الرسايل المشوّهة اللي وصلت قبل كده أثناء التربية أوالتعليم أو أي تجربة سابقة مُؤذية..

هو مش اللي بوظ علاقة؟

يبقى اللي هايصلح برضه علاقة..

علاقة يوصلك فيها حب غير مشروط.. حب ثابت دائم عميق لا يتغير بتغير حالاتك أو أحوالك.. حب (موقف) مش حب (حالة).. حب (مقام) مش حب (حال)..

علاقة يوصلك فيها إنك مقبول كُلك على بعضك زي ما انت.. بضعفك أحيانًا وعجزك ساعات وفشلك بعض الوقت.. حتى مع عدم المُوافقة على بعض أفعالك أو تصرفاتك..

علاقة يوصلك فيها إن اللي قُدامك بيهتم بيك لحسابك إنت مش لحسابه هو.. علشانك مش علشانه هو.. وإنه شايفك إنت مش شايف نفسه أو شايف أي حد تاني فيك..

علاقة تحس فيها إنك موجود.. ومتقدر.. ووجودك فارق.. وإنك تستاهل..

علاقة ماتكونش مُضطّر فيها تدفع أي تمن.. علشان ترضي أي حد..

علاقة فيها مساحات للحرية والحركة.. مش للتضييق والاختناق والتشويه والاختزال..

علاقة تكون فيها نفسك.. نفسك وبس..

العلاقة دي ممكن تكون علاقة صداقة.. ممكن تكون علاقة حب/زواج.. مُمكن تكون علاقة علاجيّة (مهنيّة) في إطار علاج نفسي..

وفي الحقيقة أي علاقة (حقيقية) توصل الرسايل دي هي علاقة علاجيّة حتى لو ما كانتش في حُجرة العلاج النفسي..

موجودة العلاقة دي في حياتك؟ مش موجودة؟ طيب دوّر عليها واتمسك بيها.. بسرعة.. ولآخر العمر.. لأنّها هي الطريق.. وهي الحل.. وهي الجواب..

قبل ما تقوم.. أعتقد إننا كمان محتاجين نعيد قراءة الآية دي من سورة (الشمس): “ونفسٍ وما سوَّاها.. فألهمها فجورَها وتقواها.. قد أفلح من زكَّاها.. وقد خاب من دسَّاها”.

عارف يعنى إيه دسَّاها؟

يعني خباها.. يعني دفنها.. يعني وأدها..

أعتقد الصورة وضحت.. والرسالة وصلت.. مش كده؟

يا رب..

ساعدنا إننا نزكي نفوسنا ونكرمها..

ساعدنا نعيد ما دفناه من نفوسنا إلى الحياة..

ساعدنا نعيش بنفوسنا الحقيقية.. مش نفوسنا المُزيفة..

يا رب..

لا تكلفنا إلا وُسعنا.. ولا تُحمِّلنا ما لا طاقة لنا به..

واعف عنا.. واغفر لنا.. وارحمنا..

أنت مولانا..

د. محمد طه