أنشودة إيزيس..
في ديسمبر 2013، نشرت مجلة Nature الشهيرة بحث (بواسطة Dias and Ressler) بيوصف تجربة اتعملت على بعض الفئران.. في التجربة دى كانوا بيشمموا الفئران رائحة معينة (اسمها أسيتوفينون)، ويصاحبوا ده بتعريضهم لصعقة كهربائية خفيفة تسبب ليهم بعض الألم.. الفئران اللى اتعرضت للتجربة ربطت تلقائياً بين الرائحة دى والألم.. طبيعى جداً..
فين المفاجأة؟
المفاجأة كانت إن أبناء هذا الجيل من الفئران، لما اتعرضوا لنفس هذه الرائحة، كانوا بيخافوا ويرتجفوا ويبعدوا هنها قدر الإمكان، رغم انهم ما عمرهم ما شموها قبل كده في حياتهم.. ورغم انهم لم يتعرضوا لنفس التجربة اللى تعرض ليها آباءهم على الإطلاق في أي وقت..
مش بس كده.. الجيل التالى (يعنى الأحفاد) حصل معاهم نفس الكلام.. نفس الخوف.. نفس رد الفعل..
في دراسة أخرى نشرت في نفس البحث.. وُجد إن الأطفال اللى نتجوا من زواج آباء وأمهات في هولندا أثناء وقت الحرب في أربعينيات القرن الماضى، كانوا أكثر إصابة بأمراض السكر و القلب من غيرهم.
نتيجة مشابهة وصلت ليها دراسة ثالثة (سابقة النشر) على أسرى الحرب الأهلية من الجنود الأمريكيين، اللى تعرضوا لظروف نفسية صعبة بسبب الحرب والأسر، وجد أيضاً أن متوسط عمر أبناءهم أقل من الطبيعى بشكل غير معتاد..
مهم كذلك ذكر ملاحظة إن بعض قاطنى مناطق الاسكيمو بيخافوا من التعابين وبيشوفوها في أحلامهم، رغم إنهم لم يروا في حياتهم على أرض الواقع أي تعابين نظراً لطبيعة المنطقة اللى نشأوا وكبروا فيها..
الكلام ده بيقول إيه؟
بيقول -مع وجود دراسات كتير أخرى- إن بعض الذكريات بتتخزن في الجينات.. وبتغير في الDNA.. مش بس على مستوى (التعبير الجينى Gene Expression).. لأ.. ده كمان على مستوى التركيب والتكوين الجينى Gene Structure..
الذكريات القوية (سواء المؤلمة أو المبهجة) تترك آثاراً عميقة وممتدة عبر الأجيال.. آثار حقيقية على مستوىات تركيبية ووظيفية متعددة..
بيسموا ده الذاكرة الجينية Genetic Memory.. والعقل الباطن المجتمعى Social Unconscious*.. واللى بتمتد لأجيال عديدة.. وتنتقل معها من مكان إلى مكان.. ومن ثقافة إلى أخرى.. واللى بتجرى عليها حالياً كمية هائلة من الدراسات والأبحاث العلمية..
يوم السبت الماضى.. وفى مشهد مبدع ومهيب.. كان موكب نقل المومياوات الملكية من المتحف المصرى بالتحرير إلى متحف الحضارة بالفسطاط.. وصاحبت الموكبت نغمات موسيقية ساحرة تحمل كلمات (أنشودة مهابة ايزيس) باللغة المصرية القديمة، وبصوت أوبرالى لا يقل سحراً وروعة..
فوجئت بأكثر من 3000 (ثلاثة آلاف) رسالة وتعليق من ناس حسوا بمجرد ما سمعوا النغمات والكلمات إنهم سمعوها قبل كده.. إنها مألوفة بالنسبة لهم.. مش غريبة عليهم.. لمستهم ومست أرواحهم بشكل مدهش.. خطفتهم وجعلتهم كالمتصوفة المجذوبين بمنتهى الغرابة..
كتير من اللى بعتوا وعلقوا كانوا مصريين.. والبعض الآخر عرب.. والبعض الأخير من ثقافات وأماكن أجنبية أخرى..
حد فهم السبب؟
حد ربط الأحداث؟
الموضوع مش ببساطة ظاهرة الDeja Vu الشهيرة على الإطلاق.. واللى بيحس فيها الشخص انه شاف أو سمع أو حس بحاجة بتحصل دلوقت إنها حصلتله قبل كده.. الDeja Vu مش بيحصل لآلاف الناس مع بعض فى نفس الوقت..
ومش تشابه نغمات وألحان لنفس المؤلف الموسيقى اللى كتير ماسمعش ألحانه قبل كده رغم جمالها وشهرتها..
احنا بنتكلم عن كلمات سمعها أجداد أجداد العالم.. عن لغة تشربت بيها الأرض منذ فجرها الأول.. عن أناشيد جلجلت ودوى صداها بين أركان أول حضارة عرفها الإنسان..
احنا سمعنا جمل مجدولة في شرائط ألأحماض النووية للبشرية كلها.. حروف تم تكرارها واستنساخها من جيل إلى جيل حتى وصلت للأجيال الحالية..
كروموسومات تناقلت.. وتلاقحت.. تزاوجت.. وأنجبت.. سافرت.. واستقرت.. هاجرت.. طفرت.. وثبتت.. تغيرت.. وتطورت.. وظلت محتفظة ببعض الذكريات الأولى.. اللى اتحفرت في أعمق أعماقها..
اللى حصل يوم السبت شيء فريد ونادر جداً.. يشبه ايقاظ حد ميت من آلاف السنين.. وبث الحياة فيه مرة أخرى..
كلمات نائمة تم ايقاظها في أرواحنا من جديد..
نغمات ساكنة.. تم تحريكها في وعينا/عقلنا الباطن المجتمعى (*Social Unconscious) بمنتهى الهدوء والقوة معاً..
أناشيد موغلة في سحيق التاريخ.. خرجت من تحت تربة مصر مرة أخرى.. فيما يشبه المعجزة..
اللى سمع الكلام وحس انه سمعه قبل كده مايستغربش.. أجداده سمعوه قبل كده واتنقش على جيناتهم..
اللى تجاوب مع الانشاد والموسيقى وحس إنها مألوفة ومش غريبة (مخيفة وحزينة وقابضة أحياناً) مايستعجبش.. هي محملة بذكريات عريقة عراقة معابدنا القديمة.. ايزيس هى (مرشدة الموتى)..
اللى تناغم مع اللغة المصرية القديمة وكأنه كان يتحدث بها بالأمس.. روحه كانت تتحدث بها بالأمس فعلاً..
احنا شهدنا بأعيننا وأسماعنا وكل حواسنا ظاهرة -بل معجزة- Intergenerational Transmission of Memories من أعقد ما يكون..
لما يسألوك عن هوية مصر..
قل إن مصر.. مصرية..
في ديسمبر 2013، نشرت مجلة Nature الشهيرة بحث (بواسطة Dias and Ressler) بيوصف تجربة اتعملت على بعض الفئران.. في التجربة دى كانوا بيشمموا الفئران رائحة معينة (اسمها أسيتوفينون)، ويصاحبوا ده بتعريضهم لصعقة كهربائية خفيفة تسبب ليهم بعض الألم.. الفئران اللى اتعرضت للتجربة ربطت تلقائياً بين الرائحة دى والألم.. طبيعى جداً..
فين المفاجأة؟
المفاجأة كانت إن أبناء هذا الجيل من الفئران، لما اتعرضوا لنفس هذه الرائحة، كانوا بيخافوا ويرتجفوا ويبعدوا هنها قدر الإمكان، رغم انهم ما عمرهم ما شموها قبل كده في حياتهم.. ورغم انهم لم يتعرضوا لنفس التجربة اللى تعرض ليها آباءهم على الإطلاق في أي وقت..
مش بس كده.. الجيل التالى (يعنى الأحفاد) حصل معاهم نفس الكلام.. نفس الخوف.. نفس رد الفعل..
في دراسة أخرى نشرت في نفس البحث.. وُجد إن الأطفال اللى نتجوا من زواج آباء وأمهات في هولندا أثناء وقت الحرب في أربعينيات القرن الماضى، كانوا أكثر إصابة بأمراض السكر و القلب من غيرهم.
نتيجة مشابهة وصلت ليها دراسة ثالثة (سابقة النشر) على أسرى الحرب الأهلية من الجنود الأمريكيين، اللى تعرضوا لظروف نفسية صعبة بسبب الحرب والأسر، وجد أيضاً أن متوسط عمر أبناءهم أقل من الطبيعى بشكل غير معتاد..
مهم كذلك ذكر ملاحظة إن بعض قاطنى مناطق الاسكيمو بيخافوا من التعابين وبيشوفوها في أحلامهم، رغم إنهم لم يروا في حياتهم على أرض الواقع أي تعابين نظراً لطبيعة المنطقة اللى نشأوا وكبروا فيها..
الكلام ده بيقول إيه؟
بيقول -مع وجود دراسات كتير أخرى- إن بعض الذكريات بتتخزن في الجينات.. وبتغير في الDNA.. مش بس على مستوى (التعبير الجينى Gene Expression).. لأ.. ده كمان على مستوى التركيب والتكوين الجينى Gene Structure..
الذكريات القوية (سواء المؤلمة أو المبهجة) تترك آثاراً عميقة وممتدة عبر الأجيال.. آثار حقيقية على مستوىات تركيبية ووظيفية متعددة..
بيسموا ده الذاكرة الجينية Genetic Memory.. والعقل الباطن المجتمعى Social Unconscious*.. واللى بتمتد لأجيال عديدة.. وتنتقل معها من مكان إلى مكان.. ومن ثقافة إلى أخرى.. واللى بتجرى عليها حالياً كمية هائلة من الدراسات والأبحاث العلمية..
يوم السبت الماضى.. وفى مشهد مبدع ومهيب.. كان موكب نقل المومياوات الملكية من المتحف المصرى بالتحرير إلى متحف الحضارة بالفسطاط.. وصاحبت الموكبت نغمات موسيقية ساحرة تحمل كلمات (أنشودة مهابة ايزيس) باللغة المصرية القديمة، وبصوت أوبرالى لا يقل سحراً وروعة..
فوجئت بأكثر من 3000 (ثلاثة آلاف) رسالة وتعليق من ناس حسوا بمجرد ما سمعوا النغمات والكلمات إنهم سمعوها قبل كده.. إنها مألوفة بالنسبة لهم.. مش غريبة عليهم.. لمستهم ومست أرواحهم بشكل مدهش.. خطفتهم وجعلتهم كالمتصوفة المجذوبين بمنتهى الغرابة..
كتير من اللى بعتوا وعلقوا كانوا مصريين.. والبعض الآخر عرب.. والبعض الأخير من ثقافات وأماكن أجنبية أخرى..
حد فهم السبب؟
حد ربط الأحداث؟
الموضوع مش ببساطة ظاهرة الDeja Vu الشهيرة على الإطلاق.. واللى بيحس فيها الشخص انه شاف أو سمع أو حس بحاجة بتحصل دلوقت إنها حصلتله قبل كده.. الDeja Vu مش بيحصل لآلاف الناس مع بعض فى نفس الوقت..
ومش تشابه نغمات وألحان لنفس المؤلف الموسيقى اللى كتير ماسمعش ألحانه قبل كده رغم جمالها وشهرتها..
احنا بنتكلم عن كلمات سمعها أجداد أجداد العالم.. عن لغة تشربت بيها الأرض منذ فجرها الأول.. عن أناشيد جلجلت ودوى صداها بين أركان أول حضارة عرفها الإنسان..
احنا سمعنا جمل مجدولة في شرائط ألأحماض النووية للبشرية كلها.. حروف تم تكرارها واستنساخها من جيل إلى جيل حتى وصلت للأجيال الحالية..
كروموسومات تناقلت.. وتلاقحت.. تزاوجت.. وأنجبت.. سافرت.. واستقرت.. هاجرت.. طفرت.. وثبتت.. تغيرت.. وتطورت.. وظلت محتفظة ببعض الذكريات الأولى.. اللى اتحفرت في أعمق أعماقها..
اللى حصل يوم السبت شيء فريد ونادر جداً.. يشبه ايقاظ حد ميت من آلاف السنين.. وبث الحياة فيه مرة أخرى..
كلمات نائمة تم ايقاظها في أرواحنا من جديد..
نغمات ساكنة.. تم تحريكها في وعينا/عقلنا الباطن المجتمعى (*Social Unconscious) بمنتهى الهدوء والقوة معاً..
أناشيد موغلة في سحيق التاريخ.. خرجت من تحت تربة مصر مرة أخرى.. فيما يشبه المعجزة..
اللى سمع الكلام وحس انه سمعه قبل كده مايستغربش.. أجداده سمعوه قبل كده واتنقش على جيناتهم..
اللى تجاوب مع الانشاد والموسيقى وحس إنها مألوفة ومش غريبة (مخيفة وحزينة وقابضة أحياناً) مايستعجبش.. هي محملة بذكريات عريقة عراقة معابدنا القديمة.. ايزيس هى (مرشدة الموتى)..
اللى تناغم مع اللغة المصرية القديمة وكأنه كان يتحدث بها بالأمس.. روحه كانت تتحدث بها بالأمس فعلاً..
احنا شهدنا بأعيننا وأسماعنا وكل حواسنا ظاهرة -بل معجزة- Intergenerational Transmission of Memories من أعقد ما يكون..
لما يسألوك عن هوية مصر..
قل إن مصر.. مصرية..
د. محمــد طــه
* تعريف العقل الباطن المجتمعى طبقاً ل(واينبيرج 2007):
The social unconscious is the co-constructed shared unconscious of members of a certain social system such as community, society, nation or culture. It includes shared anxieties, fantasies, defenses, myths, and memories. Its building bricks are made of chosen (traumas) and chosen (glories).
إن العقل الباطن المجتمعي هو نتاج بناء مشترك مكون من العقل الباطن لمجموعة من الافراد تتشارك في نظام مجتمعي واحد (مثل المجتمع او الثقافة). ويتضمن ذلك البناء المشترك مخاوفهم و خيالاتهم ودفاعاتهم النفسية وأساطيرهم وكذا ذكرياتهم. وتتكون أحجار أساس ذلك البناء من مختاراتهم من الصدمات أو الأمجاد. (ترجمة هبة صبرى).