فى المشاهد الأولى من فيلم الجوكر.. بنشوف (آرثر) بيجيله نوبات غير مفهومة من الضحك من وقت للتانى بغض النظر عن المكان أو السياق أو الناس اللى هو فى وسطهم.. بيضحك بشكل لاإرادى ومتكرر.. بيضحك فجأة من غير ما يتحكم فى نفسه ولا يقدر يوقفها.. بيقهقه بصوت عالى بدون سبب ولا مبرر.. حالة اسمها العلمى Pseudo Bulbar Affect.
الحالة دى تشبه مرض شهير فى الطب النفسي اسمه Tic Disorder (اضطراب العرات/الحركات اللاإرادية) أو Tourrette Syndrome (متلازمة توريت).. بيحصل فيه للمريض حركات لاإرادية قصيرة ومتكررة مالهاش معنى (مفهوم) ومالهاش وظيفة (واضحة).. الحركات دى ممكن تكون عضلية (زى انقباضات متكررة فى عضلات العين، غمزات مفاجئة بطرف الفم، تحريك مفاجئ للرأس، طرقعة الأصابع، ……) وممكن تكون صوتية (زى صوت كحة متكرر، صوت نحنحة أو تسليك متكرر للزور، ضحك مفاجئ، جملة أو كلمة مفاجئة ومتكررة).. وممكن تكون الاتنين مع بعض (عضلية وصوتية).
التفسيرات العلمية للحالة دى كتيرة ومختلفة، منها وجود إصابة عضوية فى بعض مناطق المخ.. منها خلل فى بعض النواقل الكيميائية فى الجهاز العصبى.. ومنها تفسير نفسي فى منتهى العمق.. أنا مؤمن بيه ومصدقه جداً (مع امكانية وجود أحد الاحتمالات السابقة أيضاً)..
التفسير ده بيقول إيه؟
شوف يا سيدى..
كل واحد فينا عنده ثلاث حالات أساسية للوجود.. أو بوصف آخر جواه ثلاث بنى آدمين غير بعض.. طفل صغير.. شاب يافع.. ووالد (أو والدة) كبير.. بيسميهم العالم النفسي الشهير إريك بيرن (حالات الأنا).. الطفل الموجود جوه كل حد فينا (لو ماتمش تشويهه) بيكون طفل حر.. منطلق.. بيحب يفرح ويتنطط.. بيحب يرقص ويستمتع.. بيقول لأ بصوت عالى.. بيبدع ويسافر ويغنى ويحب الحياة.. حركته مرنة.. وتفكيره سلس.. ووجوده مليان حب وحرية.. بيطلع مننا لما نكون فى رحلة.. فى حفلة.. فى إجازة.. مبسوطين.. ومزقططين وفرحانيين.. الشاب أو الراشد/اليافع بيطلع وقت القرارات والحسابات والمنطق.. زى ما يكون كمبيوتر مافيهوش مشاعر.. مهم وجوده وقت الحسم والحزم والحكمة.. وحالة الأنا الوالدية بتطلع من جواك وتلبسك وقت ما تكون حنين مع حد.. مهتم بحد وبتراعيه.. بتنصح حد.. أو بتنقد حد وتشد أو تقسو عليه (ونسميها هنا الوالد الناقد)..
المهم.. الطفل اللى جوه (آرثر) تعرض لكتير من أنواع الإهانة وسوء المعاملة.. تم استغلاله نفسيا وجسدياً إلى أقصى حد.. ومن أقرب الناس ليه.. حياته كانت مأساة متحركة بكل ما تحمله الكلمة من معانى..
علشان كده.. الطفل ده.. تحول بقدرة قادر إلى طفل مكبوت.. مخنوق.. محبوس داخل جسد صاحبه.. طفل بيحاول يخرج ومش عارف.. بيحاول يعبر عن نفسه ومش قادر.. طفل بينتهز أى فرصة يقول فيها “أنا موجود”.. بيفشل مرات.. وينجح مرة.. عارف إمتى؟ لما يضحك فجأة بالرغم من حزن (آرثر) العميق.. وكآبته الوجودية السوداء.. لما يفتح فتحة صغيرة كل فين وفين فى جدار نفسه السميك، ويبص منها بقهقته العالية.. لما يسرق دفة القيادة من صاحبها علسان يحس بلحظة وجود خاطفة..
تصور إن فيه أعراض فى الطب النفسي ده تفسيرها.. تصور إن الطفل المحبوس ده ممكن يطل براسه من بين قضبان الألم عن طريق غمزة متكررة غير مفهومة بعضلات الفم.. أو رفعة حاجب لاإرادية بتحصل كل شوية من غير ما نعرف معناها.. أو لزمة صوتية غريبة يحتار صاحبها واللى حواليه فى تفسيرها.. وكأن فيه خناقة داخلية حامية الوطيس بين طفل بيرفص بكل ما يملك من قوة.. أمام شخصية جامدة متصلبة محور وجودها هو الألم.. أنت قدام طفل بيخبط راسه فى الحيط حرفياً.. وبيعمل شق صغير فيها كل شوية..
بأقولك إيه؟
هو إيه أخبار طفلك الداخلى؟
إزيه كده وعامل إيه؟
كويس؟
طيب..
** بالمناسبة.. فيلم الجوكر مش بس عن التنمر والتعرض للأذى النفسي والبدنى من الأهل والناس وأثر ده على تكوين الشخصية.. دى أبسط وأسهل وأكثر طبقة سطحية فى فهمه.. الفيلم فى عمقه وحقيقته عن حاجة تانية خاااااالص..
انتظر المقال القادم..
د. محمد طــه