الست دميانة نصار حنا

بعيداً عن فيلم (ريش).. وعن المغالاة في (مع) أو (ضد).. تعالوا نشوف (الست دميانة).. أم ماريو.. بنت مصر..
“اتأخرنا في التمثيل شوية”..
– بتضحك وهى بتقولها برغم ان اللى بتقوله يزعل ويوجع واحدة كان حلمها تمثل، لكن ظروفها وأمور حياتها أجلوا تحقيق هذا الحلم.. هذا السمو فوق الألم وهذا التجاوز المستوعب للحزن بيختزله الطب النفسي ويسميه (تسامى Sublimation) ويوصفه بإنه من وسائل الدفاع النفسية الصحية الناضجة.. أراه أكبر وأعمق من كده بكتير.. لكن خلينا نستخدمه هنا على استحياء..
“كنت اقول لأختى: “ياباى يا أختى لو الواحد يوصل للناس اللى زى كده”.. تقولى: “يا أختى احنا فين وهما فين”.. قولتلها: “مين قالك.. يعنى هو كل واحد لما يطلب حاجة من ربنا بيديهاله طبعاً”..
– ايمان حقيقي أصيل وعميق.. يقين ان ربنا بيدى وهايدى للى بيطلب منه.. وان عطاؤه جاى جاى، حتى لو اتأخر شوية.. وانه ممكن يجي في صورة أو في أخرى..
“احنا ست بنات وولدين والعيشة ماكنتش قوى يعنى.. فوالدى ماكنش عنده تليفزيون.. فكنت أروح بيت خالى.. عند خالتى.. مع ولاد عمى وولاد خالتى والجيران”..
– بنت صغيرة بتحب حاجة.. عندها هواية.. والمتاح مش مساعد.. لا تيأس.. ولا تستسلم.. لأ.. تدور وتتصرف وتلاقى حل.. تخرج من حيز المتاح لمساحات الممكن.. مع ناس ووسط ناس بيحبوها وبتحبهم.
“لما لقينى أبويا متمسكة بالحاجات دى أنا وأختى الكبيرة.. راح جاب لنا واحد اللى هو الأبيض والأسود ده طبعاً.. ماكنش فيه ألوان زمان.. الكلام ده أديله بتاع خمسة وعشرين سنة”..
– احنا هنا قدام أب قدر -ببساطة شديدة- يتفهم.. ويقدر.. ويحس باحتياجات بناته.. ويشوف معنى إصرارهم على فعل اللى هما بيحبوه.. ويحترم مقاومتهم للظروف وقدرتهم على التحررمنها.. أب صعيدى جدع وأصيل وذكى.. أب راجل شرقى حقيقي.. مش ذكر شرقى منقرض..
“كنت أسمع عن الأستاذة يوستينا إنها بتعمل مسرح شارع وتعلم البنات.. فأبوها (الزوج) بالصدفة قابلها.. قالها معايا بنتى لو تسمحى.. قالتله هاتها.. فراحت.. الكلام ده بقاله سبع سنين”..
– إيه الأب ده؟ فين الأب ده؟ أب بسيط جداً.. عظيم جداً.. شايف بنته بتحب حاجة.. موهوبة في حاجة.. عاوزة تتعلم حاجة.. قد تبدو صعبة وغير مستستاغة في بيئته ومجتمعه الصغير.. لكنه وببساطة شديدة.. وشجاعة يحسد عليها.. مش بس قرر إنه يقف ورا بنته في اللى بتحبه.. لأ.. ده قرر يسعى ليها في اللى بتحبه..
“قلت طالما بنتى عايزة المسرح والتمثيل.. يبقى ربنا يعوضنى في بنتى مش فيا أنا”..
– تسامى آخر.. ونضج نفسي على مستوى أرفع.. وزى ما أبو دميانة عمل معاها.. حسها وفهمها وساعدها على تحقيق اللى عايزاه.. هي عملت ده مع بنتها.. شافتها وقدرتها وساعدتها على اللى عايزاه..
“طبعا بلدنا حسب العادات والتقاليد يقولولى هاتودى بنتك المسرح وتمشى في الشارع، قلت وإيه يعنى دى مش حاجة عيب ولا حرام”..
– وبكل شجاعة.. وبكل بساطة.. ودون صدام ولا مزايدة.. تحط الست (دميانة) حدود واضحة حوالين نفسها وحوالين بيتها وحوالين بناتها.. العادات مش فرض.. التقاليد مش دين.. مش هاسمح لحد انه يتدخل في اختياراتى ولا اختيارات بناتى.. المحدد الوحيد هو العيب والحرام.. خلاص ايند اوف تكست.. الوقوف في صف بناتها هو الأولوية.. حماية بناتها من كلام الناس هو الواجب.. عدم خنق بناتها بتلك الحبال البالية هو الرسالة..
” فلما راحت.. كانت تيجى تحكيلى.. احنا بنعمل كذا يا أمى.. أقولها طالما انتى مبسوطة وحلوة يا بنتى احنا خلاص”
– إيه الرسالة اللى توصل للبنت؟ أنا أقدر أشارك أمى باللى باعمله.. أنا أقدر أحكى لأمى على اللى بيحصل.. أمى هي المساحة الآمنة للمشاركة والحكى.. أمى مش مصدر تهديد ولا تخويف ولا ترهيب.. أمى بتفرح وتتبسط لما أنا أفرح وأتبسط.. أمى بترضى لما تلاقينى راضية..
” لما الأستاذ عمر جه الجمعية وبتاع.. قالتلى يا أمى فيه مخرج جاى الجمعية ينقى واحدة من الستات تقوم بدور في فيلم.. هاتروحى يا أمى روحى، مش هاتروحى براحتك.. قلت لها هاروح طبعاً”
– الجمعية دى هي المكان اللى من ضمن نشاطاته تعليم التمثيل.. مكان في قرية صغيرة في صعيد مصر.. مكان فيه إمكانية ان بنت صغيرة تمارس وتنمى هوايتها الفنية.. مكان يسمح للأم اللى عندها موهبة إنها تعرض موهبتها وتلاقى فرصة.. مكان وصل صيته وحرفيته إن مخرج يجي من القاهرة يشوف الناس اللى فيه علشان يختار منهم وجه جديد..
– الست دميانة مانسيتش حلمها في زحمة الحياة.. فضلت محتفظة بيه في مكان خفى بروحها.. كانت بترضى وتشبع لما تشوف بنتها بتحقق نفسها وتمارس نفس موهبتها.. لغاية ما آن الآوان..
” بس أنا ساعة ما كنت رايحة كنت بافكر ان أنا لما أوصل للمخرج ده، كنت حاسة وأنا ماشية من جوايا إن هو هايختارنى أنا.. مش عارفة ليه كده.. حسيت من جوا.. قلبى كان بيقولى إنتى.. حتى وأنا رايحة كده كنت متطمنة”..
– إيه ده؟ إيه الجمال ده؟ والله جسمى قشعر..
“كنت أقول يا رب يختارنى أنا.. كنت أسأل عيالى: يا ماريو لو الأستاذ عمر اختارنى وعملت الفيلم ده يا أبويا عيب ولا حرام؟ يقولى لا يا أمى دى حاجة حلوة طبعاً.. أقوله أنا عارفة يا أبويا بس لازم آخد رأيك.. هايدى زى كده.. وأبو ماريو”
– ابن بيحب أمه.. ويشجعها تعمل اللى بتحبه.. أم تثق في ابنها وتقدره وتقدر رؤيته ورأيه، في إطار علاقة قريبة تسمح بده.. وفى نفس الوقت تتأكد وتصر على التأكد من العيب والحرام قبل ما تعمل حتى اللى بتحبه..
“ده حتى أبو ماريو كان عاملنى إنى هاخش ضيفة شرف مش بطلة الفيلم.. وقال خليها تروح تتعلم حاجة وتفهم الدنيا وتفهم الحياة”..
– رجل.. زوج.. من صعيد مصر.. مش بيقفل أبواب الدنيا قدام مراته.. القروية البسيطة غير المتعلمة.. مش بيسد عليها شبابيك الحياة.. عاوزها تتعلم.. عاوزها تتحرر.. حابب انها تفتح عينيها.. ماعندهوش مانع انها تتحرك من مكانها.. ماعندهوش مشكلة إنها تفهم وتعرف وتوسع مداركها.. مش حاسس بتهديد من حريتها.. مش حاسس بضعف من قوتها.. مش ساجن نفسه في ذكوريته المنقرضة.. بيحرر نفسه وبيحرر مراته وولاده معاه..
“الأستاذ عمر سافر ورجع تانى.. قعد قالى يا أم هايدى أنا اخترتك انتى.. وهاتعملى الفيلم.. وكذا وكذا.. قولتله يا أستاذ عمر أنا مش متعلمة طبعاً.. قالى عادى يا أم هايدى مافيش مشاكل مش بالعلام.. فجيت عاد لما قالى ده انتى هاتروحى القاهرة، قولتله عادى ما أروح القاهرة.. قالى عيالك وكده.. جيت قولت لجوزى وابنى وبنتى هايدى.. ابنى شجعنى قالى يا أمى دى حاجة حلوة.. وإخواتى الصبيان قولتلهم.. ومعايا بنت عمى زى أختى نعتبر في نفس البيت برضه شجعتنى.. هما اللى شجعونى أكتر”
– جوزها شجعها.. ابنها شجعها.. اخواتها الصبيان شجعوها.. بنت عمها.. اللى حواليها.. محدش خاف منها.. محدش خاف عليها.. سندوها ووقفوا في ضهرها..
“فربنا حقق لى بس متأخر.. اتأخرت قوى يعنى بعد ما اتجوزت وخلفت وكده”
– ضحكتها وهى بتقول الجملة دى يمكنها أن تنسيك أي ألم.. وتزرع فيك ألف أمل.
“الصراحة مرت الأيام.. أنا كنت كل يوم أحلم وأفكر.. بس ماكنتش خايفة.. أنا مش بخاف.. يعنى كنت متطمنة إن ربنا هايبقى واقف معايا”..
– أنا مش بخاف..
أنا دميانة نصار حنا.. من محافظة المنيا.. مركز ملوى.. البرشا..
***
في الحقيقة أنا ماشوفتش الفيلم.. ومش عارف هاشوفه والا لأ.. لكنى شوفت الست دميانة.. هى بالنسبة لى الفيلم.. هي بالنسبة لى أهم من الفيلم.. هي محتاج يتعمل عنها فيلم..
امرأة مصرية.. فيها جمال مصر.. وشموخ مصر.. وبساطة وقوة وعبقرية مصر..
تعرف يعنى إيه إرادة من طفولتها..
ماتستسلمش ولا ترضى فقط بالمتاح في صباها..
تعرف ربنا وتراعى العيب والحرام في أوج نضجها..
امرأة تجيد الحلم.. وتجيد الاحتفاظ بالحلم.. وتجيد الإيمان بتحقيق الحلم..
امرأة لديها من الذكاء اللى يخليها تلقط موهبة بنتها وتساعدها على تنميتها..
ومن الفطنة اللى يخليها تاخد رأى ابنها واخواتها الصبيان -في صعيد مصر- في مشروع الفيلم والتمثيل فيه..
ومن القوة والحزم اللى يخليها تحط حدود واضحة لمدى تدخل الناس والمجتمع والعادات والتقاليد في حياتها وحياة أسرتها..
أم ماريو.. اللى متجوزة راجل شجاع.. مش بيتسلط عليها.. ومخلفة راجل جدع.. مش بيقلل منها.. واخواتها رجالة حقيقيين.. مش بيفرضوا رأيهم فيما يخصها..
الست اللى قلبها دليلها.. تحس.. ويصدق احساسها..
الست اللى عقلها أذكى وأحكم وأكثر فطنة.. ممن يدعون ذلك ادعاء..
الست اللى روحها بتضحك.. بالرغم من كل شيء..
ست مصرية طالعة من عمق تربة مصر.. مليانة أمل.. وجمال.. ونور..
أنا فخور إنى من المنيا يا أم ماريو..
وفخور إنى شوفت الفيديو القصير ده عنك..
وهادعى من كل قلبى إنى أشوف اليوم اللى هايكون فيه في كل شبر في مصر ست بتحلم ومتمسكة بحلمها -حتى تحقيقه- زيك.. ودوايرها من الأهل والأحباب زى دوايرك.. ونصيبها من الجمال والشفافية واليقين والبساطة والتواضع والتلقائية والقدرة على اختراق الأرواح والقلوب زى نصيبك..
سلامى للأستاذة يوستينا اللى بتعمل مسرح شارع فى قرية بالصعيد..
تحياتى للجمعية اللى بتراعى المواهب وتنمى الفن فى ملوى..
احترامى وتقديرى لزوجك وأولادك واخواتك وبنت عمك وكل أهلك..
انتوا أمل.. انتوا الأمل..

 

د. محمــد طــه

مشاركة من خلال :

Facebook
X
LinkedIn
WhatsApp
Telegram