(١)
ديسمبر ٢٠٠٦
تانى مقابلة ليا مع مشرفى الانجليزى على رسالة الدكتوراة فى انجلترا، سألنى:
– تعرف جيمس ستراتشى؟
– لا.. آسف جداً.. مش عارفه..
– ده العالم اللى ترجم أعمال فرويد من الألمانية للانجليزية، هو نفسه كمان كان محلل نفسي شهير.
– عظيم.. حضرتك تنصحنى أقراله؟
– عاوزك تقرا له ورقة علمية مهمة نشرها سنة 1934، عنوانها The Nature of the therapeutic action in Psychoanalysis “طبيعة العمل العلاجى فى التحليل النفسي”، وبعد ما تقراها تيجى نتناقش مع بعض فيها.
– اوك. نتناقش فيها فى مقابلتنا القادمة.
– لأ.. خد شهرين.. اقراها واستوعبها واهضمها.. وبعدين نتناقش.
– حاضر. شكراً جزيلاً.
استغربت طبعاً ان الراجل عاوزنى أقرا ورقة علمية مكتوبة سنة 1934، لكن استغرابى زال بعد ما قرأت الورقة، ومعرفتى لاحقاً إنها من كلاسيكيات علم التحليل النفسي، اللى بيعتز جداً بأصوله وتاريخه وأحجار بنائه الأولى، ولا يكف فى نفس الوقت عن تحديث نفسه ونقدها وتطوير علومه ونظرياته وأبحاثه حتى ربطها بأحدث العلوم العصبية فى الوقت الحالى.
الورقة كانت بتبحث عن إجابة لسؤال مهم جداً فى العلاج النفسي، سؤال كان ولازال يحير كل المعالجين والأطباء النفسيين تقريباً، ولغاية دلوقت محدش عنده عليه إجابة واحدة، أو اجابة أكيدة، ويمكن يكون كل حد فيهم عنده إجابة خاصة بيه بحسب تدريبه وخبرته وممارسته: إيه اللى بيخلى المرضى يخفوا؟ ازاى المريض اللى بيخضع للعلاج النفسي بيتغير؟ إيه طبيعة العمليات النفسية اللى بتحصل داخل متلقى العلاج النفسي، تنتهى بيه إنه يبقى واحد تانى؟
الورقة مليانة تفاصيل وتفسيرات ومناقشات.. وأمثلة من حالات حقيقية.. واستعراض وتحليل لنصوص وكلام بعضها.. علشان يقولنا ستراتشى فى الآخر ان اللى بيحصل هو إنه بيتكون داخل المريض صورة داخلية حية لشخص المعالج.. تحل محل صورة قديمة تكونت فى طفولته من الأب أو الأم أو المجتمع أو خليط منهم جميعاً.. الصورة الحية دى (أنا باعتبرها كائن حى داخلى) بيسموها فى التحليل النفسي (الأنا الأعلى Superego).. والأنا الأعلى ده هو أحد العوامل الأساسية اللى بتساهم فى تكوين (الضمير)..
يعنى وباختصار شديد.. المعالج بيتحول إلى جزء أساسي من ضمير المريض.
بيحصل تفكيك لهذا الكيان الداخلى.. وإعادة تركيبه من جديد بناء على وجود المعالج كجزء هام وفاعل وفارق فيه..
بتتغير المعادلة الكيميائية النفسية اللى الواحد جاى بيها للعلاج، ويضاف إليها عامل جديد (اللى هو المعالج- بنوعية وجوده المختلفة)، فيتغير ناتجها تماماً..
بدل ما كان فيه كائن داخلى قاسي.. يبقى فيه كائن داخلى رحيم..
يتحول الصوت اللائم الناقد المحبط.. إلى صوت قابل وعازر ومتفهم..
يستبدل الوحش النفسي الداخلى الكاسر.. بكائن أكثر لطفاً وحباً وحكمة..
تانى..
أن يتحول المعالج إلى جزء من ضميرك الحى..
إنك تسمع صوته فى بعض المواقف.. وهو بيقولك: برافو عليك..
انك تلاقيه نط فى عقلك فجأة بصوته وشكله وحضوره: لأ.. انت كده بتؤذى نفسك..
انك تفاجئ بنفسك أحياناً بتقول: لو هو موجود دلوقت كان هايقولى اعمل كذا.. أو كان هايضايق.. أو كان هايفرح..
انه يكون بينك وبينه حوار داخلى دائم لا ينتهى..
انه يطلعلك حتى فى أحلامك.. يسمعك.. ويطبطب عليك.. وأحياناً ينصحك ويوجهك..
يعنى.. يكون حاضر جواك حضور حقيقي.. وقوى.. وفعال.. ورحيم.
***
(٢)
من وأنا طبيب امتياز فى قسم الأمراض العصبية والنفسية بمستشفى المنيا الجامعى، كان دكتور رفعت محفوظ (أستاذى ورئيس القسم وقتها) كل شوية يجيب سيرة أستاذه (دكتور يحي الرخاوى).. يكاد مافيش يوم بيعدى.. أو قعدة يعلمنا فيها حاجة.. أو مناقشة حول أحد الموضوعات العلمية أو الحالات الطب-نفسية، غير لما يذكر اسم دكتور يحي الرخاوى فيها.. لغاية ما جه مرة وقالنا بالحرف: “أنا زى ساعى البريد.. وظيفتى أوصل ليكم اللى اتعلمته من دكتور يحي”..
كان بيقولنا إنه أحياناً (د. رفعت) كان بيسهر يشتغل مع المرضى فى جلسات علاجية بمستشفى دار المقطم (لما كان مديرها) لغاية الصبح.. يجي دكتور يحي الصبح يفاجأه ويقوله: أنا عرفت انك سهرت مع العيانين الليلة؟ ولما دكتور رفعت يسأله: عرفت إزاى؟ يقوله: عرفت من وجوههم.
كنا نناقش بحث علمى منشور من سنة.. يقولنا: ده اللى الدكتور يحي الرخاوى كان بيقوله وبيعلمه لينا من السبعينات..
دكتور يحي كان بيعمل جلسات جروب ثيرابى (علاج نفسي جمعى) بقصر العينى كل يوم أربعاء الساعة 7 ونصف صباحاً على مدى أكثر من خمسين عاماً.. لم يغيبه عنها إلا وفاته.. كانت مكاناً للعلاج، وللتعلم، وللإشراف على الأطباء والمعالجين الأصغر.. باب مفتوح للجميع.. ومتصل بالجميع.. وبالكون.. وبالله..
قعد سنوات طويلة جداً يكتب مقال علمى يومي.. ينشر فى مجلة الشبكة العربية للعلوم النفسية.. مقال علمى يومي..
كتب فى العلم، وفى الأدب، وفى النقد، وفى الصوفية، وغيرها.. كتابات مبدعة.. نضرة دائماً.. لا تنضب عن الكشف عن أسرار النفس البشرية..
لما تدخل موقعه على الانترنت (www.rakhawy.net) مش هاتصدق كمية الثراء العلمى والأدبى والإنسانى اللى أضافها للبشرية..
كان عالم، وأديب، وطبيب، وحكيم، وأستاذ، ومتصوف..
كان مهتم بالوعي الجمعى.. والعقل الجمعى.. والتناغم مع الكون.. وصولاً للخالق..
رحمة الله عليه..
دكتور رفعت قالنا على كتاب مهم نقراه للدكتور يحي الرخاوى اسمه (السايكوباثولوجى- يعنى علم الإمراض النفسي).. دورت على الكتاب فى المنيا مالقيتهوش.. وبقيت مش عارف أجيبه منين.. طلبت من الدكتور رفعت يقولى بيتباع فين فى القاهرة مثلاً علشان أقدر أشتريه.. فوجئت بيه الأسبوع التالى داخل علينا القسم بشنطتين سفر كبار.. وقاللى اتفضل.. قولتله: إيه ده حضرتك؟ قاللى: دى كل كتب د. يحي.. شنطتين.. شنطة ليك علشان انت طلبت.. وشنطة تانية تخليها فى مكتبة القسم للى عايز.
أخدت الكتب.. وبدأت رحلتى الخاصة مع دكتور الرخاوى.. اللى فيها تفاصيل كتير فوق الحصر والإلمام والوصف.. رغم انى قابلته وجهاً لوجه عدد قليل جداً من المرات فى حياتى..
فوجئت إنه فى مقدمة كتاب (السايكوباثولجى) بيقول إن الكتاب ده شرح لديوان (سر اللعبة).. إيه ده؟ يعنى هو كتب ديوان شعرى عن (الإمراض النفسي).. وبيشرح الديوان فى كتاب كامل وكبير بالشكل ده؟
قرأت الديوان.. وقرأت الكتاب.. وبعدها كتاب وكتاب وكتب كثيرة.. ورغم صعوبة لغته.. وطزاجة مصطلحاته.. واستعصائها أحياناً على فهمى.. إلا إن اللى وصلنى منها كنز معرفى حقيقي لا يضاهيه شئ.
كان لينا لقاء علمى مساء يوم الاثنين كل أسبوعين بالقسم.. ممكن يمتد لما بعد منتصف الليل.. بنقدم فيه بعض المواد العلمية والنفسية تحت إشراف ومناقشة دكتور رفعت، اللى طلب منى فى إحدى المرات أقدم فيه كتاب (رباعيات ورباعيات) ومرة أخرى كتاب (أصداء الأصداء) للدكتور يحي الرخاوى..
كتاب (رباعيات ورباعيات) بيقارن فيه بين رباعيات الخيام، ورباعيات نجيب سرور ورباعيات صلاح جاهين، من الناحية النفسية التحليلية العميقة جداً (تبعاً لمدرسة العلاقة بالموضوع فى التحليل النفسي)، وكتاب (أصداء الأصداء)، بيعرض فيه د. الرخاوى رؤيته وتحليله لكتاب أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ..
ماتستغربوش.. أنا اتربيت على إن الطب النفسي لا ينفصل عن الأدب.. ولا عن الفن.. ولا عن الإبداع.. كنا بنقدم فى لقاءاتنا العلمية بالمنيا محاضرة عن العصبونات المرآتية Mirror Neurons.. وراها محاضرة عن الجوانب النفسية فى مسرحية عطيل.. ونحفظ ونسمع كتاب تصنيفات الأمراض النفسية DSM IV بالفاصلة والنقطة قدام دكتور رفعت الصبح.. ونقدم موضوع عن رواية (الشحاذ) لنجيب محفوظ بالليل.
وبمناسبة كلمة (اتربيت).. دكتور رفعت كان دايما يقولنا (أنا اتربيت على كذا.. ) ويقصد انه تعلم كذا من دكتور الرخاوى.. (أنا اتربيت على كيت..) ويقصد إنه وصله كذا من دكتور الرخاوى.. وهكذا..
دكتور رفعت له مقال فى مجلة (الانسان والتطور) اسمه (تربية المعالج النفسي).. بيشرح فيه كيف أن عملية تدريب وتعليم وتخريج معالج نفسي حقيقي هى عملية أشبه بالتربية الحقيقية.. انك تتربى على إيد (كبير) يعلمك الصنعة.. والحرفية.. وقبلهم الأخلاق..
إيه ده؟
هى حكاية (اتربيت) دى.. وحكاية (تربية المعالج النفسي) ليها علاقة بموضوع (الأنا الأعلى)؟
ليها دعوة بموضوع الضمير؟ اللى هو أساساً بيتكون من خلال الأب والأم؟
يعنى هل ان اللى بيتعالج بيتغير بإن اللى عالجه يبقى جزء أساسي من ضميره، فيه زيها: ان اللى بيتدرب.. ويتعلم.. بيبقى اللى دربه وعلمه جزء أساسي من ضمير)؟
أيون.. ده صحيح..
طيب وهى القصة دى فيها شبه من (التربية)؟ انتوا عمالين تقولوا: أنا اتربيت..
برضه أيون.. ده صحيح.. مع بعض التفاصيل والاعتبارات والمحاذير طبعاً..
أحب أقول ان فيه (توازى) بين الثلاث عمليات، مش تشابه.
وبالمناسبة..
فيه رسالة دكتوراة اتعملت بالتعاون بين قسم الطب النفسي بجامعة المنيا وقسم العلاج النفسي بجامعة اكستر فى انجلترا عن (التدريب على العلاج النفسي كعملية موازية للعلاج النفسي الجمعى)، فيها كتير من الشرح والتوضيح والتفصيل.. عملها زميلنا العزيز دكتور ضياء على محمود من أكتر من 10 سنين.
***
(٣)
أول مرة أشوف دكتور يحي الرخاوى بشحمه ولحمه كان فى أحد الندوات العلمية بقصر العينى.. مش فاكر موضوع الندوة تحديداً.. لكنى فاكر بكل دقة وتفصيل مشهد حى من الندوة دى.. دكتور يحي كان بيتكلم عن أستاذه هو شخصياً، وقال بالحرف وهو بيشاور على الطرقة اللى بيبص عليها باب القاعة: أنا كأنى شايفه وسامع صوته فى الطرقة دى لغاية دلوقت.. ودى كانت المرة الوحيدة اللى أشوف فيها دكتور يحي الرخاوى بيبكى.. كان بيبكى بصوت محشرج عميق.. تحس فيه بصدى السنين. وما لبث أن تمالك نفسه بعدها لحظات.
شوفته بعدها فى دار المقطم للصحة النفسية.. لما كنا بنقدم موضوعات من شغلنا فى المنيا فى بعض الندوات العلمية/الأدبية/الفنية، الشهرية، اللى كان دكتور الرخاوى بيعملها.. وفاكر لما قدمت هناك ملخص رسالة الماجيستير بتاعتى عن العلاج النفسي الجمعى (واللى د. يحي كان أحد مناقشيها)، لما كان بيقول بعض الملاحظات بنبرة قاسية جداً، وهو فى نفس الوقت حاطط إيده على كتفى وبيبتسم لى وأنا قاعد جنبه على منصة التقديم، ويقولى فى آخر الكلام: انت very bright.. وازاى التناقض (او اللى يبدو تناقض) ده حرك فيا مشاعر وأفكار، خليتنى أقدم موضوع كامل فى ندوة بنفس المكان الشهر التالى عن تحليلى ورؤيتى للحظة دى، وعلاقتها بالإبداع والعملية الإبداعية من حيث التقاء المتناقضات وتشابكها وجدلها فى كل واحد جديد مختلف.
كنت حريص جداً -زيي زى كتير من الأطباء والمعالجين النفسيين- على حضور محاضرة دكتور الرخاوى فى أى مؤتمر يلقى محاضرة فيه.. وكنت أشوف أساتذتى.. وأساتذتهم.. قاعدين جنباً إلى جنب.. فى موضع التلميذ اللى جاى ينهل العلم من أحد أهم وأجمل وأعمق منابعه.. ويقولى د. رفعت بعد المحاضرة: عاوزك تسجل كل الأفكار اللى جت فى دماغك أثناء المحاضرة.. كنت دايماً باحس إحساس واحد بعدها: إن وعيي اتسع.
***
(٤)
وسط كل كلمات ومقالات رثاء دكتور يحي الرخاوى بعد وفاته منذ عدة أيام، اخترقتنى بمنتهى العمق جملة كتبها أ.د. تامر جويلى، أستاذ الطب النفسي بقصر العينى: ” قد يؤثر فيك أستاذ فيعلمك مهارة، أو يمدك بمعلومات أو يساندك، عندها سيكون قد وفي واجبه و زاد، ولكن ان ينجح ان يكون هو شخصيا ضميرك المهني و مرجعيتك الحاضرة في عملك كل يوم و بعد عشرات السنين من انتهاء تعليمك الرسمي فهذا هو الدكتور يحيي الفريد بين الأساتذة.”
أنا وقفت كتير عند كلمة (ضميرك المهنى).. هو ده بالظبط..
تصور إنك تبقى قاعد بتعمل شغلك.. وتحس إن اللى علمك قاعد معاك.. جنبك.. جواك..
انك تسمع صوته.. وتشوف نظرات عيونه.. وتحس بحضوره..
يكون عندك سؤال.. وتلاقيه بيطلع من جواك فى لحظة ما.. يجاوبك عليه..
تتكلم أحياناً.. وتحس ان هو اللى بيتكلم.. بنفس نبرة صوته.. وتعبيرات وجهه.. وخلجات جسمه..
تحس إنه ساكنك.. ماليك.. موجود فى تفاصيل شغلك.. وأحياناً فى تفاصيل حياتك..
وهنا.. عند (تفاصيل حياتك) دى.. باعتقد إن (ضميرك المهنى) هو جزء من (ضميرك الإنسانى) بشكل عام.. يعنى أنا لغاية دلوقت زى ما باحس بحضور دكتور رفعت محفوظ معايا فى جلسات العلاج النفسي اللى باعملها، باحس كمان بحضوره معايا فى بيتى وسط أولادى..
زى ما باسمع صوته.. وأشوف عيونه.. وأتحسس وجوده فى شغلى.. برضه باسمع صوته.. وأشوف عيونه.. وأتحسس وجوده فى تفاصيل حياتية أخرى.. كتير بالاقيه بيجاوبنى -من جوايا- على أسئلة شاغلانى.. كتير أقول (لو هو كان هنا.. كان هايعمل كذا.. أو كان هايقولى كذا.. أو كان هايطلب منى أعمل كذا..).. كتير بيتكلم على لسانى.. وبيهمس فى ودانى.. وبيخاطر عقلى وقلبى وروحى..
أنا متأكد إن ده نفس اللى بيحسوه تلاميذ دكتور يحي الرخاوى.. وتلاميذ أى أستاذ حقيقي.. ليه هذه النوعية من الوجود.. والأثر.. والحضور الداخلى..
المفاجأة إيه بقى؟
هأقولك..
بس خد نفسك شوية..
***
(٥)
المفاجأة.. ان هذا الضمير المهنى- اللى هو جزء من الضمير الإنسانى، ليه مستويات.. واللى بيكونه -بشكل أساسى- مش شخص اللى بيعملك، أو يربيك، أو يعالجك فقط.. لأ..
أنا لما بيحضر معايا (جوايا) دكتور رفعت.. بيحضر برضه دكتور يحي.. لأنه جزء أساسي من تكوين وضمير دكتور رفعت..
مش بس كده.. ده لما يحضر جوايا دكتور رفعت.. اللى حاضر جواه دكتور يحي.. بيحضر برضه أستاذ الدكتور يحي.. واللى هو جزء أساسي من ضمير دكتور يحي..
يعنى وأنا قاعد فى جلسة العلاج النفسي.. بيكون حاضر معايا/جوايا.. حد.. ويمكن أكتر من حد.. أنا عمرى ما عرفته وشوفته ولا سمعته..
وكأنها طبقات فوق بعض.. أو جوه بعض..
وكأن الضمير الواحد.. بيتكون من طبقات ومستويات من الأساتذة والمربيين.. ده.. جوا ده.. جوا ده..
لغاية فين ورا؟ الله أعلم.. مش عارف..
سلسال ممتد..
وصل للى قبلى.. واللى قبله..
ووصل ليا.. ولغيرى..
وبيوصل لكل اللى بأؤثر فيهم بأى شكل من الأشكال..
دكتور رفعت كان دايماً يقولنا: اوعى تفتكر انك لما تعالج واحد تبقى عالجت واحد؟ اسأل نفسك الشخص اللى انت عالجته ده، هايحتك بكام واحد فى حياته وهايؤثر فيهم؟ دى حصيلة العلاج الحقيقية..
كنت فى أحد الاجتماعات مع زمايلى بالجمعية المصرية للعلاج النفسي الجمعى، ودخل علينا دكتور يحي الرخاوى، قمنا جميعاً نسلم عليه.. قالنا: ركزوا فى اللى انتوا بتعملوه.. انتوا بتغيروا الكون!
كنت ولازلت دايماً باقول وباكرر ان كل كلامى وعلمى وكتاباتى.. أصلها الراجل اللى علمنى وربانى.. دكتور رفعت محفوظ..
هذا الأصل.. جواه أصل أعمق.. هو دكتور يحي الرخاوى.. اللى هو كمان جواه أصل أعمق.. وأعمق.. وهكذا..
وتصور إنك انت شخصياً الآن أصبحت جزء من هذا السلسال.. لأن اللى وصلك منى.. هو اللى وصلنى منهم.. وهو اللى انت هاتوصله لغيرك..
هو أنا طبيب أو معالج نفسي يا دكتور؟ أنا مالى؟
استنى.. استنى..
هو انت فاكر إن الكلام ده كله يخص فقط العلاج النفسي؟
ارجع كده واقرأ تانى..
هاتلاقى (الضمير).. و(التربية).. و(التعلم).. و(الإنسانية)..
انت تقدر تكون جزء من هذا الكائن الحى الموجود جوا اللى بيحبوك.. واللى يعرفوك..
تقدر توصل الرسالة.. ولو بنوعية وجود مختلفة وأصيلة ونافعة..
تقدر بكلمة طيبة.. وبمشاعر حقيقية.. تضيف ليهم.. ولوعيهم..
“دى الكلمة بيولوجى”.. على رأي د. يحي.. يعنى ممكن كلمة واحدة تغير الكيميا بتاعة مخ اللى قدامك..
رحمة الله عليك يا دكتور يحي..
قال للدكتور رفعت فى يوم من الأيام: تبقى اتعلمت بجد.. لما تروح الصحرا.. وتعمل فيها (دار المقطم)- يقصد يؤسس ويمارس وينقل ما تعلمه على يده فى مستشفى دار المقطم للصحة النفسية..
وحضر دكتور رفعت للمنيا.. وأنشأ قسم الطب النفسي.. وأسس برنامج العلاج الجمعى فى أوضة تدريس بالمبنى التعليمى بالمستشفى الجامعى، من 22 سنة وحتى اليوم.. وقالنا: “اوعوا نور الأوضة دى ينطفى”..
انت عارف النور ده وصل لغاية فين دلوقت؟
وصل لغاية عندك.. انت.. فى أى مكان كنت..
شايف السلسال الواصل المتصل؟
متصور العدد.. والناس؟
قادر تتخيل الطبقات والمستويات؟
فهمت بشكل جديد معنى التعلم.. والتغير.. والتربية.. والضمير؟
تقدر دلوقت تفكر وتراجع وتسأل نفسك: مين اللى كون ضميرى؟ ومين تانى؟ ومين قبله؟ ومين بعده؟
تقدر تفتكرهم.. تشكرهم.. تمتن ليهم..
تقدر كمان تشوف انت ساهمت، أو بتساهم، فى تكوين ضمير مين..
وتكتشف.. وتتخض.. من حجم المسئولية..
وتقول:
يارب.. ارحم من سبقونا إليك.. وأعنا على حمل الأمانة..
الحمدلله.

د. محمد طــه