جهاد الجينات

كتب الطب بتقول إن المرض النفسي علشان يحصل عند حد بيكون فيه ثلاث حاجات مهمة (على الأقل).. الأولى هي استعداده الوراثي والجيني، والتانية هي  طريقة تربيته ومعاملة أهله ليه في طفولته، والتالتة هي تعرضه لظرف نفسي أقوى من قدرته على المقاومة والتحمل.. التلات حاجات دول بيؤدوا لاختلال كيميائي ببعض مناطق المخ.. وظهور الأعراض النفسية..

بس بيحصل كتير إننا نلاقي حد عنده كل ما يؤهله إنه يكون مريض نفسي من الدرجة الأولى.. لكنه لم يمرض نفسيًّا بالرغم من كده!

إيه بقى الحكاية؟

في الحقيقة.. الحكاية دي مهمة جدًّا.. وأنا كاتب الكلام ده دلوقت علشان اطمّنك..

 أولا.. مهم جدًّا نعرف إن العوامل اللي بتؤدي لحدوث مرض نفسي هي في الحقيقة أكتر من كده بكتير.. عشرات وربما مئات العوامل.. لكن اللي   نعرفه منها وعنها قليل جدًّا.. يا دوب هما التلاتة دول ويمكن واحد أو اتنين تانيين.. والباقي كله الله أعلم بيه.. إحنا ما نعرفش كل حاجة عن أي حاجة.. العلم لسه قدامه كتير أوي..

ثانيًا.. مهم كمان نعرف إنه زي ما فيه عوامل تؤدي للمرض النفسي، فيه كمان عوامل بتحمي من المرض النفسي مهما كانت الظروف والضغوط والاستعداد الجيني.. زي مثلاً وجود حد في العيلة أو القرايب أو الأصحاب بيقوم بدور صمام الأمان بالنسبة للطفل أثناء تربيته.. الخال.. العمة.. الأب في حالة قسوة الأم.. الأم في حالة إهمال الأب.. صديق قريب.. جار مخلص.. وهكذا.. الحد ده بيقدم للطفل (غالبًا من غير ما يقصد ولا يعرف) معظم اللي هو محتاجه وما كانش لاقيه من مصادره الطبيعية..

كمان مدة وقوة وتكرار الرسايل المرضية اللي بتوصل للطفل ممكن تحدد هايكون مريض نفسي واللا لأ.. يعني اللي بيتبهدل كل يوم ويتشتم ويضرب، غير اللي بيتقاله كلمتين كل أسبوع.. واللي بتتعرض لاعتداء جسدي بشكل قاسي ومتكرر غير اللي اتعرضت للتحرش مرة واحدة وأخدت حقها.. وهكذا..

ده غير إن بعض الأطفال حساسين أكتر من غيرهم.. يعني فيه طفل تفرق معاه كلمة أو نظرة.. وطفل تاني ما تفرقش معاه كل حاجة بنفس الدرجة..

وطبعًا مستوى ذكاء الطفل وقدرته على الاستيعاب والتحليل والفهم ممكن ينقذه في أوقات كتير من مرض نفسي محقق..

ولو الطفل ده مبدع بأي شكل في حاجات زي الرسم أو الكتابة أو التصوير أو غيرها، فده كمان ممكن ياخده بعيد شوية عن واقعه الضاغط المؤلم..

وحاجات تانية كتير جدًّا.. الموضوع معقد ومتشابك لأقصى درجة..

نيجي بقى للمهم..

فيه عامل مهم جدااااااااااااااااا، ويفرق كتير جدااااا جداااااا في عدم حدوث المرض النفسي حتى لو اجتمعت كل العوامل المؤدية ليه، أو في حدوثه حتى لو اجتمعت كل العوامل اللي تحمي ضده..

والكلام ده موجّه ليك.. ليك إنت شخصيًّا.. علشان ببساطة ما فيش أي حد مننا ما فيش في جيناته اللي تمتد لأجيال وأجيال للوراء درجة ولو بسيطة من الاستعداد للمرض النفسي.. وما فيش أي حد مننا ما اتعرضش لشكل من أشكال المعاملة غير الصحية ولو بنظرة أو بكلمة من الأب أو الأم.. وما فيش كمان أي بني آدم ما اتعرضش لظرف قاسي أو صعب أو مؤلم في حياته..

إشمعنا بقى حد يحصله مرض نفسي ومرض لأ.. ليه يبقى اتنين إخوات توأم عندهم نفس الجينات واتربوا بنفس طريقة التربية واتعرضوا لظروف حياتية متشابهة جدًّا.. ونلاقي واحد فيهم يصاب بصعوبات أو أعراض أو أمراض نفسية والتاني لأ!!

علشان فيه حاجة اسمها (القرار).. والوش التاني بتاعه اسمه (المقاومة).. وده بقى الحاجة الوحيدة اللي تقدر تقاوم الجينات والتربية والظروف.. أو تنصاع ليهم..

وهنا السؤال الصعب والمحير واللي اتعمل فيه كمية هائلة من النظريات والأبحاث والكتب والمناظرات العلمية والإنسانية والفلسفية على مدى عشرات السنين:

هو ممكن المرض النفسي بيجي بقرار؟

أقدر أقولك من خلال كل خبرتي، ودراستي جوّه وبرّه مصر، وقراءاتي وأبحاثي وأبحاث غيري: أيون..

كتير جدًّا من مدارس ونظريات تكوين الأمراض النفسية بتقول إن المرض النفسي ممكن ييجي بقرار.. والقرار ده ممكن يكون على مراحل.. وده طبعًا لا ينفي أهمية العوامل الأخرى.. ولا يعني التعميم على الأمراض النفسية اللي   سببها (وليس نتيجتها) اضطراب عضوي في المخ أو باقي أجهزة الجسم.

قرار إزاي يعني؟

الطفل اللي بيقعد كذا سنة يستقبل رسايل نفسية مؤذية ومشوهة، بييجي عند سن معين (الأبحاث بتقول من خمس إلى 7 سنين) ويقرر (ساعات بشكل واعي وساعات بشكل غير واعي)، إنه ما يكونش نفسه تاني، ويكون زي    ما أهله واللي حواليه عاوزين.. يعني يقرر– مضطرًا- إنه يدفن نفسه الحقيقية اللي اتولد بيها، ويطلَع ما نسميه بالنفس المزيفة علشان يعفي نفسه من الأذى ويعرف يعيش.. وبيكون بكده وضع حجر الأساس في بنيان المرض النفسي الضخم اللي هايتبني جواه يوم ورا يوم.. معذور طبعًا.. بس ده اللي   حصل.. القرارات دي تفضل متخزنة جوانا أحيانًا سنين طويلة، وفي الوقت المناسب وتحت الظروف المواتية وبالتضامن مع الاستعداد الجيني وغيره،  يقرر تاني (بشكل واعي أو بشكل غير واعي) الاستسلام للواقع، والتسليم للضغوط، والانحناء النفسي أمام الأحداث. وساعتها يظهر المرض النفسي في أوضح صوره.. اللي يقرر يبقى انطوائي.. واللي يقرّر يبقى اعتمادي.. واللي   تقرر تبقى هيستيرية، واللي تقرر تكره جسمها، واللي يقرر يكره نفسه، واللي   يقرر يتجنن.. وهكذا..

إحنا في لحظة انطلاق شرارة المرض النفسي بيكون قدّامنا الاختيار.. اللي   عدّى منكم باللحظة دي هايفتكرها كويس.. اللحظة اللي بيكون قدّامي فيها قرار من اتنين.. إما المقاومة، وإما الاستسلام للأفكار وللوساوس.. إما التحمل، وإما الاستسهال والدخول في كهف الاكتئاب المظلم.. إما التعامل مع الناس مهما كان ده صعب، أو الغاؤهم واختلاق صور وأصوات وأشكال وناس وهلاوس وضلالات.. إما الحياة، وإما الموت..

طبعًا بعض مدارس الطب النفسي بتعترض على الكلام ده، وبتشوف إن المرض النفسي هو مجرد (لخبطة في الكيميا بتاعة المخ)، لكن أنا شايف إن النظرة دي (اللي بأحترمها وبأحترم روادها) هي  نظرة قاصرة ومختزلة لكل إمكانياتنا الإنسانية الهائلة.. ولتكريم ربنا لينا بمنحنا الحرية.. والاختيار.. والقرار..

يعني إيه كل الكلام ده؟

أنا رأيي إن الكلام ده بيفتح باب الأمل والحياة والنور.. علشان لما نصدّق إن المرض النفسي ممكن يبدأ بقرار.. فيبقى نصدّق برضه إن مقاومة المرض النفسي والعلاج منه برضه بتحصل بقرار..

يعني حضرتك مهما كان عندك من جينات، ومهما اتربيت تربية قاسية، ومهما اتعرضت لظروف صعبة، تقدر ما تبقاش مريض نفسي.. لو عند اللحظة الصعبة الفاصلة.. لحظة الاختيار بين الاستسلام أو المقاومة، وبين الحياة النفسية أوالموت النفسي.. تقرر إنك تختار تقاوم، وتحيا..

يعني كمان إنك إنت أو أي حدّ عنده أي صعوبات أو أعراض أو أمراض نفسية، تقدر بقدرتك وإمكاناتك الشخصية اللي ربنا منحها ليك وبوجود علاقة واحدة طيبة (أو أكتر) في حياتك تونسك وتساعدك، تقدر تقاوم وتتحدى جيناتك وتربيتك وظروفك وأعراضك.. وتتغير.. أو تخف.. آه.. تخف..

ده مش كلام في الهوا.. أنا شوفت الكلام ده بعنيا عشرات المرات على مدى كل سنين خبرتي المهنية.. وكلنا نعرف إن فيه حاجة اسمها التعبير الجيني Gene Expression.. يعني أي جينات بتاعة أي حاجة عندك زي ما هي  ممكن تنشط وتشتغل.. ممكن كمان تكمن وتتعطل.. بناء على حاجات كتير.. منها قراراتك النفسية والحياتية الواعية وغير الواعية.

إحنا ربنا حط فينا بؤرة نور من يوم ولادتنا لغاية ما نموت.. سميها الفطرة.. سميها النفس الحقيقية، سميها قبس من روح الله.. سميها زي ما تسميها.. النور ده مش بينطفي أبدًا مهما اتعرض لرياح وأعاصير وزلازل نفسية مهما كانت عنيفة.. ممكن يخفت شوية، ممكن يتوهج شوية.. لكنه مش بينطفي أبدًا.. حتى بالموت..

إحنا جوانا قدرة هائلة على المقاومة.. ودوافع إنسانية فطرية جبارة على التغيير.. وقوة جذب رهيبة نحو الحياة..

في مرة واحد زميلي أول ما سمع قد إيه ممكن التربية تؤذي الأطفال، راح سأل أستاذي العظيم د. رفعت محفوظ وهو مخضوض جدًّا وقال له:

  • طيب واللي ممكن يكون وصل لأولادنا غصب عننا، والأذى اللي ممكن يكونوا اتأذوه وإحنا مش واخدين بالنا؟ ده كل واحد فينا ممكن يكون عمل بلاوي في أولاده.. دا إحنا ممكن نكون شوهناهم بكلمة أو نظرة أو رد فعل!!

ردّ عليه دكتور رفعت بكل ثقة:

  • ما تخافش.. فطرة ربنا مش بتتشوه بسهولة.. البني آدمين مش زجاج بيتكسر مع أول خبطة.. الأطفال أقوى مما نتصور بكتير..

كلنا أخدنا نفسنا.. وقولنا: الحمد لله..

حط بقى الكلمتين دول حلقة في ودانك قبل ما تقوم..

إنت تقدر تتغير..

إنت تقدر ما تبقاش مريض نفسي..

ولو مريض.. تقدر تخف..

إنت تقدر تقاوم جيناتك وتربيتك وظروفك..

وتقدر تتحكم في تعبيرك الجيني..

لو كان جهاد النفس ليه أشكال ومستويات..

فده شكل من أشكال جهاد النفس..

وأقدر أسميه بكل ثقة: (جهاد الجينات)..

مطلوب بس إنت تصدق ده..

وتنوي..

وتقرر..

وتختار الحقيقة..

والنور..

والحياة..

ياللا بقى بصوت عالي جدًّا..

يسمع آخر الدنيا..

وأنا هاردد معاك:

أنا اخترت الحقيقة..

أنا اخترت النور..

أنا اخترت الحياة..

د. محمد طه

مشاركة من خلال :

Facebook
X
LinkedIn
WhatsApp
Telegram