حلل يا دكتور: أبو مكة ..

2024-03-23T13:22:17+00:00أكتوبر 13th, 2019|

شوف يا سيدى..

فيه ظاهرتين نفسيتين كبار واضحين أوى فى قصة صور اللاعب محمد صلاح الأخيرة (صور دعائية لمجلة عالمية مع عارضة أزياء شهيرة )، وردرود فعل الناس عليهم.. حاجة اسمها Pairing.. وحاجة اسمها Idealization/Devaluation..

ركز كده معايا علشان هاتضحك فى الآخر 😊

ويلفريد بيون Wilfred Bion عالم بريطانى من أصل هندى.. عاش فى الفترة من 1897 إلى 1979. بيون كان طبيب ومحلل نفسي عبقرى.. وأسس مدرسة مهمة جداً فى علم النفس اسمها Group Analysis أو تحليل المجموعة، وهى الطريقة الأساسية فى العلاج النفسي الجمعى فى بريطانيا ومعظم أوروبا حتى الآن.

بيون كان مهتم بدراسة مجموعات البشر وتحليلها، وعمل كتاب مرجعى سنة 1961 اسمه Experiences in Groups and other works، جمّع فيه رؤيته واكتشافاته فى المجال ده.

بيون معروف بإن لغته العلمية صعبة ومعقدة، لدرجة إنه فيه كتب وقواميس كاملة اتعملت بس لشرح لغة ومفردات بيون بس.. زى كتاب The language of Bion عمله واحد اسمه ساندلر سنة 2010.

المهم..

بيون قالك إن فيه نوعين/مستويين من المجموعات البشرية.. نوع مفيد وصحى ومنتج سماه (مجموعة عمل) Work Group، ونوع مضر ومؤذى ومعطل سماه (مجموعة قائمة على الفروض الأساسية) Basic Assumption Group. وقال إن أى (مجموعة عمل) ممكن تفشل وتبوظ وتفقد أهدافها لو حصل فيها واحد أو أكتر من (الفروض الأساسية) التلاتة.. لأنها كده بتكون تحولت بقدرة قادر إلى (مجموعة قائمة على الفروض الأساسية)..

آسف على المقدمة الصعبة اللى حاولت تسهيلها بقدر الإمكان.. لكنها فعلاً مقدمة لابد منها..

****************************

مش هاتكلم عن الفرض الأول ولا التالت دلوقت..

الفرض التانى من الفروض الأساسية اللى ممكن تكون خطر على أى مجموعة من البشر.. اسمه (الاقتران) Pairing، يعنى أفراد المجموعة يختاروا (بشكل واعى أو غير واعى) حد أو أكتر منهم، يحطوا فيه كل آمالهم.. ويعلقوا عليه كل أحلامهم.. وينتظروا منه تحقيق المعجزات.. بالنيابة عنهم..

بيون سمَّى الحكاية دى Pairing، علشان العقل الباطن للمجموعة وقتها بينظر للشخص ده وكأنه المسيح/المنقذ/المولود المنتظر/المُخلّص اللى هايخلص المجموعة من أى فشل أو خوف أو قلق أو إحباط.. من غير ما يبذلوا هما أى مجهود..

بيون لاحظ ان معظم المجموعات البشرية بتختار اتنين يكون فيه ما بينهم كيميا معينة وتعمل لهم Pairing (وده مصدر التسمية).. وتحط عليهم كل آمال وطموحات وأحلام وأعباء المجموعة.. لكن تطور نظريته خلانا نشوف ان ده ممكن يحصل مع واحد بس من المجموعة.. أو ثلاثة.. وأحياناً يحصل مع فكرة.. مجرد فكرة بعيدة المنال وأحياناً مستحيلة.. لكن المجموعة تنتظر تحقيقها بكل سذاجة.. بس دى قصة عميقة ومعقدة ويطول شرحها..

المجموعة فى الوقت ده، بتكون فى حالة عارمة من البهجة، والشعور الشديد بالانتشاء والفرح والأمل.. والوقوف بكل ثقة على أعتاب المستحيل..

أهو احنا بقى عملنا كده مع (محمد صلاح)..

احنا حملنا الراجل كل آمالنا الفردية والشخصية والمجتمعية.. وعلقنا عليه كل أحلامنا المنتظرة.. وشوفنا فيه البطل المظفر القاهر اللى هايحقق لينا كل الانتصارات والبطولات.. واحنا قاعدين نتفرج..

بيون بيقول إن ظاهرة ال Pairing وارد إنها تحصل بشكل طبيعى وصحى ومطلوب فى معامل الأبحاث العلمية.. اللى بتكون فيها مجموعة العلماء فى انتظار اكتشاف/اختراع/مولود علمى جديد، ناتج من تعبهم ومجهودهم طول سنين.. لكن الظاهرة دى لما تحصل خارج هذا السياق (أو ما شابهه) بتكون خطر جداً، علشان حاجتين:

الحاجة الأولى هى إن الناس ممكن تتكاسل عن إنها تعمل وتجتهد وتكد لتحقيق أحلامها الفردية.. وتتراخى فى الحركة والسعى نحوها.. طالما عقلهم الباطن بيقولهم إن فيه حد ممكن يقوم بده بالنيابة عنهم..

والحاجة التانية هى إنهم ممكن يصابوا بالصدمة والخذلان الشديد لو حصل أى حاجة تعوق هذا الشخص من تحقيق الهدف أو الحلم المنتظر.. وساعتها مش هاتكون الحكاية صدمة أو خذلان لبنى آدم واحد.. لأ.. دى صدمة وخذلان لمجموعة كبيرة من الناس..

إحنا حطينا كل أحلامنا فوق كتف محمد صلاح.. واستنينا منه يحولها لحقيقة..

علقنا كل آمالنا فى رقبته.. وانتظرنا منه يحققها لنا..

شيلناه شيلة تقيلة جداً، حرمناه بيها من حقه البشرى فى انه يكون انسان.. بنى آدم طبيعى عادى..

محمد صلاح إلى جانب كونه رياضى استثنائى، فهو بقى فى نظرنا الشخص المسئول عن تغيير صورة العرب فى الخارج.. والإنسان اللى بيغير الانطباع السائد عن الإسلام، ويقاوم الإسلاموفوبيا، واللاعب اللى مصير منتخبنا فى كاس العالم معتمد عليه، والبطل اللى مطلوب منه يحقق إنجاز فى كل ماتش، ويجيب جول فى كل مباراة..

احنا فصلنا صلاح على مقاسنا.. وعاوزينه يبقى قد المقاس ده.. حطيناه فى قالب جبس.. ومش عاوزينه يخرج منه.. رسمناله خطوط حياة وسلوك ومظهر.. ومش سامحينله يتحرك براهم أو حتى جواهم بحريته..

وده هاياخدنا للظاهرة النفسية التانية اللى وضحت فى قصة أبو مكة..

فيه طريقة للتعامل مع الآخرين اسمها (التقديس- نزع القيمة) Idealization/Devaluation.. يعنى تقدس حد.. وتطلع بيه السما.. وبعدها بشوية.. تبدأ تقلل منه.. وتشكك فيه.. وتنزل بيه سابع أرض..

دى طريقة بدائية وطفولية جداً فى الاستقبال والتفكير والتعامل.. بيستخدمها الأطفال فى نظرتهم وتفاعلهم مع العالم والناس قبل ما يكبروا وينضجوا نفسياً.. وبيستخدمها كمان مرضى اضطراب نفسى شهير جداً اسمه (اضطراب الشخصية الحدية) Borderline Personality Disorder .. اللى عنده/عندها الاضطراب ده، تشوفك النهاردة أجمل وأروع وأكرم وأحن راجل فى الدنيا.. وتيجى بكرة تقلب عليك وتديك فوق دماغك لأنك تحولت فى نظرها بقدرة قادر إلى أبشع وأفظع وأصعب وأقسى بنى آدم فى التاريخ..

الطريقة دى وراها عدم القدرة على تحمل رؤية الشخص كله على بعضه.. والاكتفاء برؤية جانب واحد فقط منه.. إما الجانب الجيد.. أو الجانب السيئ.. علشان ده أسهل فى الاستيعاب.. وأقل بذلا للمجهود العقلى.. وأقل تحملاً للمسئولية النفسية (مسئولية رؤية الآخربكامله)..

وزى ما فيه صعوبات نفسية بتصيب الأفراد.. فيه صعوبات نفسية بتصيب المجموعات والمجتمعات والثقافات.. يعنى فيه ثقافات بتهوى تقديس شخص.. ورفعه عنان السماء.. واختيار العمى عن رؤية نواقصه وزلاته.. وحرمانه من حقه البشرى فى الخطأ والضعف والفشل.. وبعد شوية.. وعند أول مطب.. تبدأ تتصيدله الأخطاء.. وتقف له على الواحدة.. وتتكالب عليه بالطعن والهجوم.. لغاية ما تُجهز عليه.. وتسحقه سحقاً.. وكأنه ماعملش حاجة واحدة جيدة فى حياته.

لو شوفتوا تعليقات معظم الناس على صور صلاح الأخيرة (اللى هى حاجة مهنية بحتة ومفهومة جداً من لاعب عالمى محترف) هاتلاقى ده اللى حصل بالظبط..

امبارح نعمل من محمد صلاح شيخ.. والنهاردة نعمل منه مسخ..
امبارح نشوفه على إنه خامة عربية اسلامية خالصة.. والنهاردة نزندقه ونكفره ..
امبارح نصنع منه نبى.. لأ.. صنم.. إله من العجوة، والنهاردة ناكله بكل شراهة ونهم..

وكعادتنا.. نتأرجح بين الافتنان التام بشخص.. أو شئ.. أو حدث.. وبين الإجهاز عليه.. وسلخه.. بعد ذبحه..

لا مساحات انسانية..
لا فروق آدمية..
لا خطوط للرجعة..

طيب إحنا محتاجين إيه؟

محتاجين حاجة بسيطة جداً.. لكنها صعبة جداً.. هى فىلا الحقيقة أصعب حاجة على وجه الإطلاق..

محتاجين نقبل الاختلاف.. نقبل الآخر كما هو زى ما هو من غير ما نفصله على مقاساتنا الخاصة والفردية.. محتاجين نبطل نسجن غيرنا فى تصوراتنا وتوقعاتنا وأحلامنا.. محتاجين نكف عن انتظار المهدى المنتظر فى كل حد بنحبه..

محتاجين بكل بساطة نصدق إن كل واحد حر.. وان مافيش حد ملك حد.. مافيش حد ملكنا.. بس كده.. آه والله بس كده..

أقولك النكتة بقى..

بيون سمى الظاهرة بتاعته Pairing.. اللى تعنى فى حقيقتها (التزاوج)، لأنه افترض ان المجموعات اللى بتعمل ده، كأنهم -فى عقلهم الباطن- بيتزوجوا الشخص اللى بيعملوا معاه Pairing.. وبيستنوا منه انه يهديهم المولود المنتظر.. كلمة هنا.. أمل هناك.. تصرف هنا.. أو جول (فى كل ماتش) هناك..

احنا بقى فى الموقف الأخير ده.. مابقاش التزاوج ده (لا واعى).. لأ.. ده طفح على مستويات الوعى الظاهر.. الناس حطت نفسها مكان مراته حرفياً.. وتقمصوها (مش تعاطفوا معاها.. مين قال انها محتاجة تعاطف أصلاً؟).. وزعلوا بالنيابة عنها.. واتقمصوا واستحلفوا وتوعدوا.. ده فيه ناس قالت “ده راجل مش بيحترم مراته”.. انت مالك يا سيدى ومالهم، وايه عرفك مفهومه واللا مفهوم مراته عن احترامهم لبعض.. ناس تانى قالت “طب هو يقبل على مراته انها تعمل كده؟”.. يا ستى انتى ايه دخلك بينه وبين مراته، وايه علاقتك باللى هو يقبله أو اللى هو تقبله أصلاً؟ وتعليقات تانى فى منتهى الغرابة.. لا تنم إلا عن ظواهر نفسية تستحق الدراسة..

ربنا يعينك علينا يا أبو مكة..

د. محمد طـه

Share This Story, Choose Your Platform!

اذهب إلى الأعلى