أول ما بافتح الفيس بوك كل يوم، بأُفاجئ بكمية غريبة من العرض والإعلان والشير لمقاطع فيديو ليها مئات الآلاف من المشاهدات، اسمها (تيك توك) و (ميوزكلى الصيف والساحل) .. فيديوهات لشباب وبنات ابتداء من 13 أو 14 سنة مثلاً، وهما بيرقصوا..
 
أنا ماعنديش مشكلة فى الرقص.. بالعكس.. الرقص شئ جميل بيصالح الواحد على نفسه وجسمه -وأحياناً على الحياة.. ده فيه نوع من العلاج النفسي اسمه العلاج بالحركة والرقص.. بس مش ده.. استنى..
 
مشكلتى الأساسية فى الفيديوهات دى هى معناها.. طريقة الرقص اللى فيها.. تعبيرات وش وجسد اللى بيرقصوا.. الغمزات واللمزات والإشارات الغريبة.. هما عاوزين يقولوا إيه ولمين؟
 
تعال نبدأ من الأول..
 
هل الفيديوهات دى معمولة بالصدفة؟ يعنى هل هما مش واخدين بالهم ان فيه حد بيصور وهما بيرقصوا؟
لا.. دول باصيين للكاميرا بكل جرأة، ورغم ان التصوير مش معمول باحترافية، إلا أنه واضح جداً إنه بترتيب وقصد.
 
هل هويات اللى طالعين فيها مجهولة؟ هل فيه أى اخفاء للوش أو العينين أو أى حاجة؟ اطلاقاً.. بالعكس.. ده كل واحدة (أو واحد) منهم بتتعمد اظهار (كل) ملامح وشها وجسمها وكل حاجة.. كل حاجة.. مش بس كده.. ده اسم كل حد فيهم بيكون مكتوب تحت الشاشة أثناء الفقرة- أقصد الوصلة..
 
هل الفيديوهات دى خاصة؟ منزلية؟ مش معمولة للعرض العام؟
لا خاااالص.. ده واضح إنها مش معمولة إلا للعرض العام..
 
طب هل دى مسابقة للرقص مثلاُ؟ أو اكتشاف المواهب؟ هل متصورة فى استوديو أو مكان خاص ومجهز؟
أبداً.. دى متصورة فى كل مكان وأى مكان: فى البيت.. فى الشارع.. فى أوضة نوم.. على البلاج.. على الرصيف..
 
ومش هاتكلم أو أوصف بقى اللبس الغريب والميكب الأغرب وعناوين الفيديوهات الأغرب والأغرب..
 
كل ده بقى بيقول إيه؟ بيقول إيه عن عينة كبيرة (بدون تعميم طبعاً) من شباب وشابات الجيل الصغير اللى طالع ده؟
 
الجيل اللى بينه وبين المعرفة ضغطة زرار.. لأ.. لمسة إصبع.. واللى برضه بينه وبين الانحدار والتسيب والانحلال برضه لمسة إصبع..
 
الجيل اللى بينه وبين الجيل اللى أكبر منه عشرات السنوات المعرفية والأخلاقية والسلوكية.. وبينه وبين الجيل اللى رباه (الأباء والأمهات) مئات السنوات الضوئية..
 
كل ده بيقول وبكل بساطة إننا أمام جيل قادم (أو وصل بالفعل) بيطلع لنا لسانه..آه والله زى ما بقولك كده.. اللى باشوفه بوضوح فى الفيديوهات دى هو بنات وأولاد بيطلعوا لينا لسانهم..
 
بيقولولنا وبصوت عالى جداً.. وعلى نغمات الدوم والتك وموسيقى المهرجانات الصاخبة، ان جيلهم مش هايقبل من الأهل أو المجتمع حاجة اسمها طاعة عمياء.. أو (هو كده).. أو (اسمع الكلام بدون مناقشة يا ولد)..
 
بيقولولنا انهم مستعدين يرموا كل ما يخص الثقافة والعادات والتقاليد، فى أقرب سلة مهملات، لو اصطدمت مع حرياتهم الشخصية..
 
بيقولولنا ان حتى الدين بالنسبة لهم بقى حاجة تراثية.. قديمة.. غير ملزمة..
بيقولولنا ان لغة الوعظ والنصح والإرشاد مش لغتهم.. وان اللغة الوحيدة اللى بيفهمومها هى لغة المناقشة والحجة والإقناع.. ومن ثم القبول أو الرفض..
 
بيقولوا ان التليفزيون والفضائيات والجرايد والمجلات أصبحت كلها حفريات لا تخاطبهم ولا تفهمهم ولا تعبر عنهم.. وانهم خلقوا وهايخلقوا بايديهم فى فضاء السوشيال ميديا الرحب كل ما يعبر عنهم.. وبطريقتهم.. واللى عاجبه..
 
وطبعاً بيقولوا كتير عن مستوى التعليم والمدارس والكليات..
 
بيقولوا كل ده ازاى بقى؟
أيوه.. بالظبط..
بانهم يطلعوا لينا لسانهم.. فى (تيك توك).. وغيرها.. وغيرها..
 
محدش يقولى دى حالات قليلة وظواهر فردية والكلام ده، لو شوفت تليفون ابنك أو بنتك (بالصدفة) هاتعرف الرد لوحدك.
 
طب نعمل إيه؟
 
فى الحقيقة ده سؤال فى منتهى الحماقة فى الوقت الحالى.. سؤال مصدره اعتماديتنا المعتادة والمطلقة على حد يدينا روشتة للعلاج.. وخطوات للحركة.. ومانيوال للحياة.. الاعتمادية اللى رضعناها من صغرنا، واتربينا عليها، وعشنا بيها، وغالباً هانموت بيها..
 
لا يا سيدى.. المطلوب دلوقت مش أى أسئلة ولا أى اجابات..
 
المطلوب حالاً وفوراً وحتماً.. هو إننا نتخض.. أه والله نتخض.. وناخد وقتنا فى الخضة والشهقة والاستغراب..
 
مطلوب نسمع.. نسمع.. نسمع.. نسمعهم بكل قبول واحتواء واحترام (والقبول لا يعنى الموافقة، والاحتواء لا يعنى التشجيع، والاحترام هو الباب السحرى لعمل علاقة حقيقية مُغيرة معاهم).. نسمعهم بدون أحكام مسبقة ومواقف جامدة.. نسمعهم مش نجلدهم ونعاقبهم ونطلع عين أهلهم.. نسمعهم مش نقولهم احنا سامعينكم..
 
بعدها مطلوب نحاول نفك شفرة تصرفاتهم.. ونشوف ونفهم ببساطة ووضوح: انتوا عاوزين تقولولنا إيه؟وليه؟
 
وبعدها مطلوب نحاول نشوف مسئوليتنا احنا شخصياً عن اللى حاصل ده (قبل ما نشوف مسئوليتهم).. عن المسافة اللى عمالة توسع بينا وبين أولادنا لغاية ما تحولت لخندق عميق يحول بينا وبينهم..
 
وبعد كل ده.. مطلوب نراجع طريقتنا فى التربية والتعليم والخطاب الأخلاقى والدينى، اللى لو ماتغيروش.. ومن دلوقت.. يبقى قل علينا سلاماً..
لأ..
قل علينا..
تك توك..
 
د. محمد طه