سلمى نشأت بين أب وأم بعاد عاطفياً، عن نفسهم، وعنها.. أب وأم مش مهتمين.. مش موجودين لما تحتاجهم.. مش بيشبعوا ليها أهم احتياجاتها النفسية- خاصة فى سنينها الأولى: انها تتشاف وتتقدر وتحس ان وجودها ليه قيمة وليه لازمة..
كانت بتستى منهم تلبية هذه الاحتياجات بأى طريقة، وماكنش بيحصل..
كانت بتستنى -على الأقل- حد منهم يجي يشوفها ويشجعها فى تمرين الباليه المائي.. وماكنش بيحصل..
سلمى كانت دايماً فى حالة انتظار..
لفت نظرى جداُ مشهد سلمى وهى بتبص لإحدى البنات اللى بتمرنهم على (هى اشتغلت مدربة باليه مائي بعد ما كانت بتتمرن عليه صغرها)، المشهد بتزل فيه البنت بكامل جسمها تحت المياه، وتغيب شوية.. عيون سلمى اتعلقت بالمشهد ده لثوانى..
وكأن المشهد ده- فى رأيي- بيعرض قصة حياة سلمى نفسها.. عايشة تحت المياه معظم الوقت.. وبتطلع من وقت للتانى فوق.. تاخد شوية أكسجين.. وتنزل تانى..
وكأنه من ناحية تانية بيوصف حنين داخلى عميق.. لحياتها داخل الرحم.. حيث أول علاقة لينا بالمياه (السائل الأمنيوسي داخل الرحم).. المكان الوحيد اللى كانت متحاوطة فيه بالدفا والأمان وتلبية الاحتياجات (البيولوجية على الأقل) بدون طلب أو الحاح أو مذلة.. قبل ما تتولد.. وتواجه حرمان أمها الشديد..
وزى ما اتكلمنا بالتفصيل فى كتاب (علاقات خطرة).. ان العلاقة بالأب والأم أثناء الطفولة من أهم العوامل اللى بتحدد وتوجه اختياراتنا فى الارتباط.. بنختار حد مواصفاته إيه؟ بنكمل مع حد بيعاملنا إزاى؟ بنقبل على نفسنا إيه؟ بنرضى لنفسنا مساحة من الوجود فى العلاقة قدها إيه؟
ده بالظبط اللى حصل مع (سلمى).. لما ارتبطت ب(شريف)..
كانت شايفة من أول لحظة انه عنده مشكلة مع المسئولية.. وواجهته بده فعلاً.. لكنها قررت ترضى.. وتكمل..
طلب منها يعيشوا مع بعض بدون زواج وارتباط رسمى.. اندهشت واتصدمت ورفضت فى الأول.. وانتهى الأمر انه اتجوزها وكأنه مضطر.. ووافقت.. وكملت..
كل ما تفاتحه فى رغبتها فى الخلفة.. وتكوين أسرة بجد.. يتهرب.. ويقفش.. ويؤجل.. ويقول مش مستعد.. وهى تصبر.. وتكمل..
لغاية ما فاجأها انه عنده بنت من علاقة سابقة.. بنت هو نفسه ماكنش يعرف بوجودها.. وكان متفق مع مامتها انها تختفى من حياته تماماً (وده بيقول كتير عن علاقته بالمسئولية وبالارتباط وبوجود أولاد).. وزعلت وانهارت وسابت البيت.. لكنها رجعت بعد يومين.. وشكلها هاتكمل..
وفى كل مرة من دول.. سلمى تعيش فى حالة انتظار..
مرة مستنية انه يتحمل مسئولية علاقته بيها..
مرة مستنية إنه يتجوزها..
مرة مستنية إنه يوافق على الخلفة..
وهكذا..
عايشة تحت المياه.. فى انتظار شوية أكسجين.. تجاهد وتعافر وتطلع علشان تاخدهم.. ثم تنزل مرة أخرى..
سلمى وافقت تكون مساحتها فى العلاقة دى أقل ما يمكن..
وارتضت لنفسها حجم ضئيل جداً من الوجود..
وماكنش عندها مشكلة انها تفضل (متطبقة).. ممنوع عليها انها (تتفرد)..
المشهد الموجع جداً.. واللى بيكمل الصورة دى ببراعة غريبة.. هو مشهد اللى حصل لها لما (شريف) كان على باب البيت، رايح يستقبل بنته فى المطار.. مشهد اختناق مفاجئ.. بكاء ونحيب وانهيار.. ثم عدم القدرة على التنفس الطبيعى المنتظم.. واستمر ده لدقايق مرت كأنها ساعات..
وكأنها تحت الماء.. تبحث عن شهقة أكسجين..
وشريف قاعد قصادها عمال يقولها: اتنفسي.. اتنفسي..
بدون أن يدرى.. انه هو نفسه اللى مانع عنها هواء العلاقة الحية..
بيحصل كتير اننا نختار اختيارات تكرر مأساتنا فى علاقاتنا الأولى.. إما علشان ناخد فيها حقوقنا اللى معرفناش ناخدها زمان.. أو علشان ننتقم من اللى أذونا فى صور ناس شبههم.. أو علشان ده اللى عرفناه واتعودنا عليه ومعرفناش غيره.. أو نغير/ننقذ الآن من كنا نرغب فى تغييره/انقاذه وقتها.. أو -وده الأصعب- اننا نبادر بإيذاء نفسنا المرة دى بدل ما نتأذى غصب عننا زى المرة اللى فاتت (على قول المثل الشهير: بيدى لا بيد عمرو)..
لكن ده لا يمنع ان الحياة فعلاً غريبة جداً.. بتلف بينا وترجعنا فى أوقات كتير (بمساعدتنا غالباً) لنفس النقطة.. وتوصلنا كل شوية لنفس مفترق الطرق.. وكأنها بتسألنا فى كل مرة: هاه.. هاتختار نفس الاختيار تانى؟ والا هاتختار غيره؟
وتفضل تكرر ده مرة واتنين وعشرة.. لغاية ما تستنفذ فرصك.. أو تتعلم الدرس.. We repeat what we don’t repair.
هل وارد ان سلمى تكمل مع شريف؟ وارد طبعا.. وهاتبقى اختارت مرة تانية.. لا.. عاشرة.. انها تفضل عايشة تحت المياه.. فى انتظار شوية أكسجين.. تلحق تاخدهم كل شوية.. أو نفسها يتقطع..
هل وارد انها تتعلم الدرس.. وتقرر انها تستاهل وضع أحسن من ده.. وماترضاش بأقل من حقها وقيمتها؟ برضه وارد.. وساعتها تبقى قررت تتولد من جديد.. وتتحرر من الرحم القديم..
هل وارد ان شريف يتغير ويتحمل مسئولية العلاقة دى بجد؟ الله أعلم.. بس ده رهان غالى جداً.. والعلاقات -فى رأيي- ماينفعش فيها رهانات بهذا الشكل..
بس فيه سؤال أغرب.. وأهم.. ومستحوذ على تفكيرى وبحثى فى الفترة دى..
ليه بنات كتير.. ماعندهومش أى مشاكل جسيمة مع أهلهم.. وتمت تلبيىة احتياجاتهم الأساسية منهم بشكل مناسب جداً.. وعملية نموهم ونضجهم النفسي معقولة للغاية.. بييجوا برضه عند الارتباط.. ويختاروا هذا النموذج الصعب.. اللى عنده مشاكل مع نفسه.. ومع المسئولية.. ومع العلاقات الحقيقية؟
ليه يعملوا كده فى نفسهم رغم لنهم متربيين فعلاً أحسن تربية؟ وعلى قدر عالى من الثقافة والوعى وحسن الخَلق والخُلق؟
ليه يسيبوا السهل البسيط المباشر؟ ويروحوا للصعب المكلكع اللى مليان مخاطرة؟
هانشوف الإجابة مع بعض.. بعدين.. وهى مبهرة فعلاً..
بس خلينا نتفق دلوقت..
ان فيه نوع من العلاقات..
عامل زى ما تكون تحت المياه..
فى انتظار الأكسجين..
* المشهدين من مسلسل #الهرشة_السابعة

د. محمـد طـه