يوليو 2003
 
فيه زنقة شهيرة بيتعرض ليها معظم اللى بيحضروا أو يناقشوا رسايل ماجيستير ودكتوراة.. اسمها زنقة اللحظات الأخيرة.. اللى هى تبقى مجهز كل حاجة.. كاتب الرسالة ومراجعها.. مرقم الصفحات ومرتبها.. عامل الفواصل وموزعها فى أماكنها.. وتبص تلاقى حاجة كده تطلع من تحت الأرض انت مش عامل حسابها، تعطل كل حاجة.. وتوقف المراكب السايرة.. وتضرب أخماس فى أسداس.. وتبقى مش عارف تعمل إيه..
 
زنقتى كانت مختلفة شوية.. أنا انسان منظم جداً بطبعى.. باحب أعمل حساب كل حاجة مقدماً.. وأحط الاحتمالات القريبة والبعيدة.. والمفاجآت اللى تخطر واللى ماتخطرش على البال.. أحب أسبق الأحداث بخطوة.. وأتوقع ما هو قبل التوقعات.. لكن.. على مين 🙂
 
الطباعة باظت.. أيون.. طباعة الورق اللى كنت مستلفها علشان أطبع بيها رسالة الماجيستير عطلت.. جابت آخرها.. حلفت ماهى مطلعة قماش.. ولا ورق.. ولا حتى حبر..
 
لازم أتصرف.. مالهاش حل.. مطلوب أسلم الرسالة مطبوعة ومتجلدة بعد بكرة للدكتور رفعت محفوظ فى القاهرة.. أعمل إيه.. أعمل إيه.. أستلف غيرها؟ منين ومن عند مين؟ طيب ما يمكن تبوظ تانى!! أطبع فى مكتب طباعة؟ ورق كتير وهايكون غالى.. دى الرسالة حوالى 800 صفحة.. آه والله 800 صفحة.. جلسات علاجية كاملة معمولها تحليل نوعى واستنتاجات واستخلاصات من أصعب ما يكون.. نموذج علاجى جديد بيطبقه د. رفعت فى المنيا علشان يعلمنا العلاج النفسي الجمعى بطريقة سهلة ومنظمة. تانى رسالة ماجيستير فى المنيا ويمكن خامس أو سادس رسالة علمية فى مصر عن العلاج النفسي الجمعى.. رشحنى للشغل فيها د. رفعت فى يوم غريب جداً جمعنى فيه مع زميلى وصديقى الغالى د. أحمد كمال وقالنا: أقولكم سر؟ قولناله: اتفضل حضرتك.. قال: انتوا الاتنين هاتشتغلوا ماجيستير ودكتوراة فى العلاج النفسي الجمعى. وسبحان الله.. هو ما حدث بالظبط..
 
أعمل إيه بقى لإنقاذ هذا الموقف.. والخروج بهذه الرسالة إلى النور.. وحمل هذه الأمانة إلى صاحبها.. أشترى طباعة.. ماهو تقريباً تمن الطباعة الجديدة يعادل تمن طباعة هذه الرسالة الضخمة فى أى مكتب.. يبقى أكون ذكى وشاطر وأجيب من الآخر وأشترى طباعة..
حلو.. جميل..
لا استنى.. فيه سؤال أهم..
أجيب تمن الطباعة منين؟
 
وهنا الإجابة جت فى أقل من دقيقتين: أبيع الموبايل.. أيون.. أبيع الموبايل.. هو يعنى الموبايل أهم واللا الرسالة؟ وبعدين يا سيدى بكرة تخلص الماجيستير وتفتح عيادة وتجيب موبايل جديد.. وبعدين هو مش أول ولا آخر موبايل.. قعدت أصبر نفسي، وأقنعها، مع كثير من الإحساس بالضعف والعجز وقلة الحيلة.. اللى حاولت أتغلب عليهم بكل الكوميديا والسخرية اللى فاتت.
 
بعت الموبايل بألف جنيه.. كنت باحبه جداً.. فاكر كويس ابتسامتى الخجلى له ولمن اشتراه لحظة بيعه.. واشتريت الطباعة.. وطبعت الرسالة.. وسافرت القاهرة..
 
زمايلى زعلوا منى.. ليه ماقولتلناش؟ ليه ماطلبتش مننا؟ ليه عملت كده من غير ما ترجع لنا طيب؟
 
أغلى حاجة عندى هى كرامتى.. وأصعب شئ علي هو الشعور بالحاجة.. علشان كده ماطلبتش.. وماقولتش.. ومارجعتش..
 
روحت لدكتور رفعت عيادته بالقاهرة.. استقبلنى استقبال الأب الحانى لابنه.. فتحلى الباب.. أشار لي بالجلوس أمامه على مكتبه.. وسلمته الرسالة.. ومعاها كم هائل من العناء والشقاء والألم والأمل.. جهد وتفكير وبحث ونتائج.. سهر وحيرة وأزمات وانفراجات.. رمقات هادئة للخلف.. ونظرات آملة للأمام..
 
د. رفعت بص لى بعينه الطيبة وقاللى بصوت رخيم: ليه عملت كده؟ مش كنت تقوللى؟
 
ً فهمت فوراً هو بيتكلم عن إيه؟ يبدو أن أحد زملائى قاله إنى بعت تليفونى علشان أطبع الرسالة.. بصيت فى الأرض وماتكلمتش..
 
لقيته بيطلع ظرف جواب من جيبه وبيدهولى فى إيدى.. وقبل ما أنطق بحرف واحد.. قاللى: دى مكافأتى ليك على الرسالة.. لو ما أخدتهاش.. يبقى لا انت تلميذى ولا أعرفك..
 
طبطب عليا.. ووصلنى للباب..
 
استلم رسالة الماجيستير.. وهو مايعرفش- أو غالباً كان يعرف- إنه فى نفس الوقت.. سلمنى رسالة حياتى..
 
د. محمد طه