رمضان 2018- الأسبوع الثالث
 
“أعمل إيه”..
أول كلمتين قالهم (عزيز) لأمه.. لما دخل عليها ولقاها ميتة..
“أعمل إيه؟ هي ماقلتليش اعمل ايه ببقية حياتي دي”..
إعلان بالعجز.. والغضب.. وقلة الحيلة.. بعد سنوات طويلة من الاعتماد عليها بشكل كامل.. لكنها فجأة.. خليت بيه.. وبقت مش موجودة.. واختفت للأبد..
________________________
 
سيجموند فرويد قسم مراحل النمو النفسي إلى خمس مراحل.. كل مرحلة فيهم سماها باسم أحد أعضاء الجسم.. مهم يوصل من الأم/الأب للطفل فى كل مرحلة منهم رسالة نفسية أساسية جداً يعتمد عليها نجاحه فى اجتياز هذه المرحلة والانتقال للمرحلة اللى بعدها.. ولو ماوصلتش الرسالة دى، يقف الطفل نفسياً عن احتياجات ومتطلبات المرحلة دى، ويفضل ثابت عندها، رغم كبر سنه، ونمو جسمه..
 
المرحلة الأولى اسمها (المرحلة الفمية)، وهى من وقت الولادة حتى سن سنتين.. واتسمت بالاسم ده علشان (فم الطفل) فى المرحلة دى بيكون هو نقطة التقاؤه بالعالم ومنطقة تفاعله معاه.. دى مرحلة الرضاعة.. ومرحلة لحس الأصابع والعض ومصمصة الشفاه.. اللى بيحصل من خلالهم الطفل إما على متعة جسدية أو تعبير بدائى عن الغضب والعنف (العض)..
 
مهم يوصل للطفل من أمه فى المرحلة دى رسالة واحدة بسيطة جداً.. عنوانها “وقت ما تحتاجنى.. هاتلاقينى”.. يعنى وقت ما يحتاج يرضع.. يلاقيها موجودة.. وقت ما يحتاج يتحضن يلاقيها متاحة.. وقت ما يحتاج ينام بين إيديها.. يلاقيها حواليه.. مهم يوصله إن أمه حاسة بيه، ومهتمة بأمره..
 
طبعاً مش مطلوب أبداً إنها تكون موجودة ومتاحة 24 ساعة فى اليوم لمدة سبع أيام فى الأسبوع.. لكن تكون موجودة بالقدر الكافى اللى محتاجه الطفل.. لا أكثر ولا أقل..
 
لو كانت غايبة.. مشغولة.. مهملة.. فده هايوصل رسالة للطفل بتقول: (ماتثقش فى حد.. مش هاتلاقى حد جنبك وقت ما تحتاج.. أى حد ممكن يخونك ويخلى بيك).. ولو كانت مسخرة نفسها ليه طول الوقت.. ومتاحة حتى من غير ما يطلب.. ومدلعاه ومهشتكاه زيادة عن اللزوم، فده هايوصله رسالة مفادها: (ماتعتمدش على نفسك.. دايماً فيه حد هايحللك مشاكلك.. وياخد قراراتك بالنيابة عنك)..
 
فى الحالتين.. الطفل ده لما يكبر غالباً هايبقى شخص اعتمادى.. عنده جوع شديد لحد يثق فيه، بيدور دايماً على يعتمد عليه، مايعرفش يخطى خطوة واحدة بدون رأي أمه (أو من يقوم بدورها)..
 
هايفضل طفل صغير عنده سنتين.. فى جسم رجل ضخم عنده أربعين سنة..
طفل صغير بيرضع.. زى عزيز..
________________________
 
فرويد اتكلم بالتفصيل عن تثبيت (الطفل) عند سن معين فى مرحلة معينة من النمو النفسيFixation.. لكنه ماتكلمش بنفس التفصيل عن تثبيت (الأم لطفلها) عند هذا السن.. واستمرار تثبيتها ليه طول العمر..
 
الأم دى جنت على ابنها وأجرمت فى حقه.. لأنها ببساطة شديدة حرمته من إنه يكبر..
 
اللى يشوف (عزيز) على امتداد حلقات مسلسل (ليالى أوجينى) هايلاقيه فعلاً طفل صغير.. خايف من أمه.. اللى بتاخدله قراراته.. وتختار بالنيابة عنه.. اللى نظرة منها توقفه مكانه.. وابتسامة منها تنيمه مرتاح البال.. مايقدرش يتنفس من غير اذنها.. ومايعرفش يتحرك بدون رضاها..
 
تعالوا نشوف عزيز وصف نفسه إزاى فى أحد مشاهد المسلسل العبقرية:
– أنا أصلا مش مهم.. مافيش أى حاجة بعملها مهمة لأى حد.. حتى أمى.. مش مهم أنا باعمل إيه.. المهم مابعملش إيه.. المهم إنى ماكسرلهاش كلمة.. حتى لو غلط.. المهم إن أنا ماقاوحهاش قدام الناس.. ماصغرهاش.. المهم إن أنا مافكرش بدماغى.. مابقاش أنانى.. مابصش تحت رجلى.. ماعملش.. ماسويش.. ماسخمش.. كل حاجة بالنفى.. إنما أعمل إيه ده مش مهم.. علشان كده أنا بطلت أعمل.. الحاجة الوحيدة اللى بقيت أعملها.. هى إنى مابعملش..
– صاحبه يشير لعامل البار بالاكتفاء من تقديم الخمر..
– لا.. لا.. انت خايف إنى أسكر وأعمل حاجة وحشة؟ أنا بقولك.. أنا ولا بعمل وحش.. ولا بعمل حلو.. أنا بس باعرف ماعملش..
– انت زى الفل.. وتقدر تعمل كل اللى نفسك فيه..
– ما هو أنا المشكلة مابقيتش أعوز حاجة.. اعتودت إنى ماعوزش.. حتى الحاجة الوحيدة اللى عوزتها فى حياتى.. ماعرفتش أحافظ عليها..
 
هو هنا بيشير لقصة الحب الوحيدة اللى عاشها فى حياته.. واللى أمه تسببت فى فشلها وعدم اكتمالها.. مش بس كده.. دى راحت خطبتله واحدة على مزاجها ومن اختيارها.. وده كان طبعاً فشل تانى.. لأن خطيبته اكتشفت إنه مش بيحس.. مش بيحب.. مش موجود..
 
الأم اللى زى دى بتتفنن فى إفساد زواجات أبناءها.. لأن معنى إنه يتجوز.. إنه هاتكون فيه واحدة تانية فى حياته غيرها.. إنه هايفلت من إيديها.. إنه هايخرج عن طوعها وسيطرتها.. ومعنى إنه يبعد عنها ويبقى ليه بيت وزوجة، هو إنه احتمال ايكبر، ويبقى له رأى واختيار وحق اعتراض.. أو يفضل صغير بس مع أم تانية جديدة هى مراته..
جريمة سحق إنسانى مع سبق الإصرار والترصد.. رغبة عارمة فى السيطرة والتحكم على حساب أى شئ وكل شئ.. ثدى أم حنون تحول فجأة لوحش كاسر..
 
رسالة نفسية قاسية مغلفة بالسوليفان الفاخر محتواها: “إوعى تكبر”..
وطبعاً أسلحة الأم دى فى تثبيت وتصغير وتحجم ابنها هو اتهامات زى: انت أنانى.. مش بتفكر غير فى نفسك.. ماشى بدماغك.. اسمع كلامى علشان أرضى عنك.. انت عاق.. أنا أعرف الحياة أكتر منك.. أنا خايفة عليك..
فيتولد لديه مزيج من الخوف، والإحساس بالذنب، والعجز الشديد.. ويضطر للإحساس الزائف بالأمان والحماية تحت جناح هذه الأم المتحكمة المسيطرة.. ويفضل صغير.. مهما كبر..
 
شلل نفسي تام..
ولا حول ولا قوة إلا بالله..
________________________
 
للمفارقة العجيبة.. عزيز فى المشهد اللى فات كان فى البار عمال يشرب خمرة ومش راضى يبطل.. وده يتناسب تماماً مع صفات (الشخصية الفميةOral Personality )، اللى هى شخصية الواحد اللى ثبت نفسياً عند المرحلة الفمية اللى وصفناها من شوية.. الشخص ده –زى أى طفل بيرضع- بيلاقى متعته –غالباً- فى حاجات ليها علاقة بالفم.. يعنى شرب وسكر.. نهم زئد جداً فى السجاير.. إدمان.. وبعض الحاجات تانية..
بالمناسبة فيه بقايا طبيعية موجودة عندنا كلنا من مرحلتنا الفمية للنمو النفسي.. زى إننا لما نسمع حاجة جديدة أو مفاجأة.. نفتح فمنا من الدهشة.. وكأننا فى اللحظة دى بنرجع أطفال صغيرين نستوعب العالم وخبراته عن طريق الفم.
________________________
 
مشكلة الراجل (ابن أمه) مشكلتين.. مشكلة وهى عايشة.. ومشكلة أكبر بعد ما تموت..
 
مشكلته وهى عايشة، إنه إنسان ممسوح الشخصية، متقزم الوجود، باهت الملامح.. ولا بيهش ولا بينش.. وأحياناً بيهش وينش بصوت عالى أوى وبشكل مبالغ فيه، علشان يثبت لنفسه وللى قدامه إنه قال إيه راجل.. وكبير.. وإنه يعرف.. وإنه يقدر.. (وهو عارف إنه لا بيقدر ولا بيعرف)..
 
أمه بتكون متغولة فى تفاصيل حياته بشكل مفزع.. كل حاجة بإذنها.. كل همسة برأيها.. كل حركة بالرجوع ليها.. فى دراسته.. مع أصحابه.. والأدهى والأمر.. فى خطوبته وجوازه.. وبيته.. وأحياناً فى سريره مع مراته.. ويا لسوء حظ من ترتبط بمثل هذا الرجل..
 
أما مشكلته لما تموت.. هى إنه بيحس فجأة إنه زى الطفل الصغير اللى تاه من إيد مامته فى مكان واسع وكبير.. مش عارف يتصرف.. مش قادر ياخد قرار.. مش عارف يعمل إيه.. وليه.. وازاى..
 
بيحس أحياناً إنها ضحكت عليه وخانته.. بيتملى غضب وخوف ورعب من كل حاجة وأى حاجة.. كل حد وأى حد..
يقعد جنب الحيط زى ما عزيز قعد جنب جثة أمه ساعات طويلة.. ولسان حاله بيقول: بقى بعد ما لزقتينى فيكى طول عمرى.. جاية تسيبينى دلوقت؟ بقى بعد ما عوديتنى على الاعتماد عليكى.. مطلوب منى دلوقت أعتمد على نفسي؟ بقى بعد ما خليتينى صغير كل حياتى.. عاوزانى أكبر دلوقت؟
 
وينطلق إلى العالم.. كطفل تائه صغير..
 
ويفضل طول عمره بيدور على حد يقوم معاه بدور الأم.. حد يعتمد عليه.. يرضع منه.. بلا نهاية..
 
أو يفضل مستنى أمه تطلع من القبر.. علشان تعتق رقبته.. وتحرره من سجن اعتماده عليها.. وخوفه منها..
شوفوا قال إيه لصاحبه (فى نفس البار) بعد وفاتها:
– وانت برضه يا عزيز بلاش تشرب كأنه حد بيجرى وراك..
– هاخاف من مين؟ ماللى كنت بخاف منها راحت خلاص.. أقولك الحق.. أنا لسه برضه شايل هم الخوف..
– مافيش حاجة تخوف..
– لا فيه.. خايف إن أنا ماعرفش أعيش من غير الخوف اللى اتعودت عليه… أنا عامل زى التور اللى من ساعة ما وعى على الدنيا وهو مربوط فى ساقية.. مايعرفش غير انه يمشى فى دايرة.. وقعد عمره كله يحلم باليوم اللى ممكن يتفك فيه.. يحلم إنه يمشى طوالى.. بدل ما هو بيلف حوالين نفسه كده.. يحلم إنه يخرج بره الدايرة.. يشوف دنيا جديدة.. ولما جه اليوم واتفك.. مابقاش عارف يمشى إزاى.. ولا يروح فين.. دماغه بتقوله “انت ماتعرفش غير انك تلف فى الساقية دى وبس”.. المشكلة إن التور مابقاش ليه صاحب.. ولا حد يلفه.. ولا حتى يشخط فيه.. أنا التور ده.. أنا التور اللى بقى خايف حتى إنه يجرب يمشى من غير ما يكون مربوط..
– عزيز.. انت زى الفل.. انت بس متقل شوية فى الشرب..
– لا.. أنا شارب المر من زمان.. دلوقت أنا راجل حر.. بس مش عارف أعمل إيه بحريتى دى… محتاس بنفسي أوى..
_________________________
 
بالمناسبة.. ابن عم الراجل (ابن أمه) هو الراجل (جوز أمه).. اللى أمه بتعتبره الراجل بتاعها بدل جوزها.. واللى بتعامله على إنه سبع البرمبة وسيد الرجالة وقاهر قلوب العذارى.. واللى بتغير عليه من خطيبته أو مراته شخصياً.. وتفضل تكبره وتقدسه وتنفخ فيه لغاية ما يفرقع.. بس ده عاوز كتاب لوحده..
والجبناء تزوجتهم أمهاتهم..
________________________
 
بعض المجتمعات بتشجع – وبشدة- اعتمادية الأبناء على أمهاتهم وآباءهم.. بشكل غريب وغير معقول ومتجاوز كل الحدود.. يختارولوا دراسته/دراستها.. طبيعة ومكان تعليمه/تعليمها.. لبسه.. سفره.. تفاصيل زواجه من أول هايتجوز مين لغاية هايتجوز فين.. وهايخلف امتى.. ومش عاوز يخلف دلوقت ليه.. ومراتك عملتلك أكل إيه النهاردة.. وليه.. وليه لأ.. وليه آه.. ومعندناش حاجة اسمها طلاق.. واستحملى زى كل الناس ماهى مستحملة.. واللى يقول (لأ) يبقى عاق ومش بيسمع الكلام ولا يبر والديه..
 
ده غير تشجيع اعتماد الزوجة على زوجها.. الآمر الناهى الحاكم بأمره.. ولما تفكر تستقل وتبنى نفسها ووعيها وشخصيتها تبقى فاجر وناشز وخارجة عن الطوع..
 
وغيره.. وغيره.. وغيره..
فى سلسلة متصلة من النكوص والطفولية والعبث..
 
________________________
 
مهم جداً نعرف إن ورا كل ده -عند هذه الأم المسكينة- كم هائل من الخوف والوحدة وعدم الإحساس العميق بالأمان.. نتيجة ظروف تربوية أو حياتية ضاغطة وبائسة.. خليتها تكلبش فى ابنها وتتبت فيه.. وتمنعه من إنه حتى يكون موجود.. بس للأسف كل الأطراف بتتدفع التمن..
 
مهم كمان نعرف ان أكتر حاجة مؤلمة فى الحكاية دى كلها هى ان الابن بيحب أمه وبيكرهها فى نفس الوقت.. خايف منها وخايف عليها فى نفس الوقت.. محتاجها وعاوز يتخلص منها فى نفس الوقت.. منتهى اللخبطة والحيرة والتيه..
 
مافيش حاجة فى النفس البشرية أصعب من وجود مشاعر متناقضة ناحية نفس الشخص..
ده بيمزق نفوسنا تمزيقاً..
________________________
 
يا كل أم..
سن الرضاعة ينتهى عند سنتين..
ماينفعش ترضعى ابنك طول حياته..
ابنك محتاج يكبر.. سيبيه يكبر.. اسمحيله يكبر..
 
مقدرين خوفك.. وألمك.. ووحدتك أحياناً..
بس كبران ابنك ونضجه هو اللى يطمنك ويحميكى.. مش سخْطه.. وخسْئه.. والالتصاق به..
 
ماتخليش أول كلمة يقولها ابنك من بعدك: “أعمل ايه؟”
 
يا كل ابن..
ماتستناش الإذن..
علشان تكبر..
انفطموا من أبناءكم..
وافطموا أبناءكم منكم..
 
يرحمكم الله..
 
د. محمد طه