اسأل نفسك السؤال ده: هو أنا بعمل علاقة مع اللي قدامي كله واللا مع جزء منه فقط؟ يعني بأعمل علاقة مع الجزء الطيب فيه بس.. بقبله.. وبحبه.. وباقي أجزاء نفسه وتفاصيل شخصيته مش قابلها؟ أو بعمل علاقة مع الجزء السيئ بس.. الجزء الوحش.. الجزء المُظلم.. ومغمض عيني عن باقي الأجزاء؟ ولاّ شايفه كله على بعضه.. زي ما هو.. وقابله كما هو .. بكل ما فيه؟

هو انت بتعمل علاقة مع قد إيه من اللي معاك؟ بتعمل علاقة مع كام في المية منه؟ قابل كل أجزائه وتفاصيله واللا مقسمه زي التورتة.. تاخد منه حتة.. وتسيب الباقي؟

بتعمل علاقة مع قد إيه من حبيبك؟ مع قد إيه من صاحبك؟ مع أي حتة من نفسك؟ مع كام في المية من مراتك؟ مع أي جزء من دينك؟

بشكل عام فيه نوعين من العلاقات.. سواء العلاقات مع الأشخاص، أو الأشياء، أو أي حاجة..

النوع الأول.. هو إنك تعمل علاقة مع جزء واحد (أو بالكتير عدة أجزاء) من الآخر، وما لكش دعوة بالأجزاء الأخرى.. ودي اسمها (علاقة جزئية)..

والنوع التاني.. هو إن علاقتك بالآخر تكون مع كل أجزائه وتفاصيله.. تكون مع مجموعة كله على بعضه حتة واحدة.. ودي اسمها (علاقة كلية)..

طبعًا (الآخر) ده مُمكن يكون أي حد أو أي حاجة..

قوللي إزاي..

أقولك إزاي..

لما تكون شايف اللي بتحبها على إنها ملاك نازل من السما.. وما فيهاش غلطة.. وإنها أميرة الأميرات، وساحرة الساحرات، وأسطورة الأساطير.. ومش شايف (أو مش عاوز تشوف) إنها بتغلط، وبتقصر، وإن جمالها نسبي، وإن كلامها مش كله عسل وسكر، وإنه ساعات بيبقى علقم ومر.. وحركاتها وتصرفاتها مش كلها سحر وإبهار.. وإنها ساعات تكون مُندفعة، وساعات جبانة، وساعات محتارة.. يبقى انت كده عامل معاها علاقة جزئية.. مع الجزء ده منها بس.. وسايب الباقى.. أو ساعات.. مطنشه..

والعكس بالعكس.. يعني لما تكون مش شايف من حد في دايرة علاقاتك، غير إنه أناني وطمّاع وقاسي ومهمل و.. و… ومش عاوز تشوف ولا تقبل إنه ممكن يكون ضعيف ومتلخبط ومليان غُلب ووجع واحتياج.. يبقى انت برضه عامل معاه علاقة جزئية..

لما تحب وتقبل مراتك وهي لابسة شيك وحاطة ميك أب وبرفان ودلع وحركات، وما تقبلهاش ولا تبقى طايق تبص في وشها لما تكون مسحولة في شغل البيت، وتحت عينيها اسود من التعب والسهر، وهدومها مكرمشة ومتبهدلة من خدمتك انت وعيالك.. يبقى انت عامل معاها علاقة جزئية.. ناقصة كتير..

لما تختزل مريضك إلى شوية أعراض، وتعلق عليه لافتة مرضه، وما تشوفش منه غير نواقل كيميائية ومستقبلات عصبية، وتنسى أو تتناسى آدميته ورحلته الإنسانية الشريفة اللي وصلته لغاية عندك.. وتتعامل معاه على إنه (حالة) مش على إنه بني آدم يبقى علاقتك بمريضك علاقة جزئية..

لما ما تشوفش من دينك غير إطالة اللحية وتقصير الثوب وضرب الزوجة، وتسيب المعاملات ومكارم الأخلاق وجوهر الدين العميق.. يبقى حتى علاقتك بدينك وربك علاقة جزئية ناقصة مُختزلة..

لما كل رؤيتك للغرب تكون على إنه انحلال وفسوق وجنس وفساد.. وما تحطش ده جنب التقدم العلمي والثقافي والتكنولوجي الرهيب.. يبقى انت بتبص بعين واحدة.. ومغمض عينك التانية.. ونفس الكلام طبعًا لو ما شوفتش من الغرب غير سبقه لينا في معظم مجالات الحياة، وتناسيت التفكك الأسري والمعاناة الفردية والاجتماعية من ده على كل المستويات.. في الحالتين علاقتك بيه علاقة جزئية غير كاملة..

الكلام ده ينطبق على أي علاقة.. مع أي حد.. أو أي حاجة.. وكل واحد وشطارته.. وكل واحد وقدرته على تحمل المتناقضات وقبول الاختلاف..

نجيب من الأول بقى.. يعني من زمان.. من زمان جدًّا..

فيه نمطين/طريقتين للعلاقات الإنسانية بنتعلمهم في حياتنا من خلال نمونا النفسي بداية من أشهر عمرنا الأولى.. طريقة سهلة.. وطريقة صعبة شوية..

الطفل في أول كام شهر في حياته بيحاول يفهم الدنيا من حواليه، ويفهم الناس، ويحس بيهم، بيحاول يحط أبجديات علاقته بالحياة.. ويستوعب الخبرات والمستحدثات اليومية اللي بتمر بيه.. واللي بتكون جديدة عليه تمامًا.. وعلشان يعمل ده.. فهو محتاج طريقة بسيطة وسهلة جدًّا للفهم والاستيعاب.. لغاية ما عقله ينضج ويبدأ يستوعب ويفهم بشكل أكبر.. الطريقة البسيطة دي هي إنه يعمل مع الأشخاص والأشياء والخبرات من حواليه علاقة جزئية أولية بدائية.. يشوف منهم جزء واحد فقط، وما لهوش دعوة بالباقي.. يعني ده كويس وده وحش.. ده صح وده غلط.. ده يمين وده شمال.. بس.. وخلاص.. لدرجة إنه بيستقبل أمه نفسها في الوقت ده على إنها كائنين مختلفين غير بعض.. واحد كويس، وواحد وحش.. أم كويسة.. وأم وحشة.. وقت ما ترضعه وتحضنه لغاية ما ينام تبقى هي دي الأم الكويسة الموجودة المُتاحة اللي بتديله الشبع والحُضن والدفا.. ووقت ما تغيب أو تبعد عنه شوية تبقى دي الأم التانية الوحشة البعيدة اللي مش بتحس بجوعه واحتياجه وبتهمله.. الطريقة دي بتساعده كتير جدًّا في استيعاب الأشخاص وفهم الخبرات والاندماج في العالم خلال أول ست شهور من عمره..

خلال كام؟! أول ست شهور من عمره.. أول ست شهور من عمره..

بعد كده.. يبدأ عقل الطفل يكبر.. ووعيه يتسع.. ونمط علاقاته يتغير.. يعني يبدأ يكتشف إن كتير جدًّا من علاقاته دي كانت ناقصة.. وإن الشخص الواحد.. أو الحاجة الواحدة.. مُمكن يكون فيها أجزاء كتير أوي غير اللي هو كان شايفها، وإن بعض الأجزاء دى مُتناقض.. وبعضها عكس بعض.. وكتير منها مُختلف.. يكتشف إن نفس الأم الكويسة فيها حاجات وحشة.. ونفس الأم الوحشة فيها حاجات كويسة.. يكتشف إن نفس الأم اللي بتقرب وبتهتم وتدي الشبع والحُضن والدفا هي هي الأم اللي ساعات بتكون تعبانة وبعيدة ومش قادرة تدي.. يتلخبط.. ويحتار شوية.. ويتألم شويتين.. وبعدين يقبل ده، ويتجاوزه.. ويكبر بيه.. وينضج من خلاله.. ويتحوّل نمط علاقاته مع الناس والحياة والغير إلى (علاقات كلية).. يشوف فيها اللي قدامه كله على بعضه.. يقبل الاختلاف.. يستوعب التناقض.. يستحمل اللخبطة والحيرة، في نفسه وفي الآخرين.. وده المفروض يحصل في الست شهور التانية من عمر الطفل.. ده طبعًا بفرض إن نموه الصحي والنفسي ماشي سليم بدون مشاكل ولا عُقد..

طبعًا لو الطفل ما قبلش الرؤية الجدية دي.. وما استحملش اللخبطة، وما قدرش على الألم.. فهيفضل بنفس نمط العلاقات القديم.. العلاقات (الجزئية) الناقصة المختزلة، مع نفسه.. ومع غيره.. ومع حياته.. ومع دينه.. ومع بلده.. ومع العالم كله..

حلو الكلام؟

طيب..

تصور بقى إن اللي علاقاته مع الآخر علاقات جزئية.. أحادية الرؤية، مش بيقبل فيها الاختلاف.. ولا بيستحمل فيها التناقض ولا اللخبطة والحيرة.. وبيستسهل ويتعامل بلغة ده حلو وده وحش.. وده صح وده غلط.. ده حد عمره النفسي أقل من ست شهور.. وإن الشكل الناضج السوي للعلاقات الإنسانية مع آخرين هو إنك تشوف اللي قُدامك كله على بعضه.. وتقبله بعيوبه وبأخطائه وبنواقصه.. وتستحمل اختلافه عنك .. وما تتخضش من حيرتك ولخبطتك ولا حيرته ولخبطته.. وإنك تكون من جواك مليان براح.. براااااااح.. براااااااااااح..

صاحب العلاقات الجزئية عايش نصف حياة.. نصفها الثاني موت..

وصاحب العلاقات الكلية بيستمتع بحالة كاملة من الحياة.. بيسمح لنفسه إنه يعيش.. ويسمح لغيره إنه يعيش برضه.. بيسمح لنفسه إنه يجرب ويغلط ويتعلم ويتغير.. ويسمح لغيره إنه يجرب ويغلط ويتعلم ويتغير برضه..

الأول كتير بيحكم.. وكتير بيقدس.. ومش بيشوف غير اللي في دماغه.. ومش بيسمع غير اللى هو عاوز يسمعه.. ده لو شاف ولو سمع من أصله..

والتاني بيشوف.. ويسمع.. ويسمح.. وما يتخضش.. ويستحمل.. ويقبل..

الأول مش بيدي فرص.. لا لنفسه ولا لا لغيره.. هي كده.. وما فيش غير كده..

التاني كل يوم بالنسبة له فرصة جديدة.. وكل حد بالنسبة له اختبار جديد لجوهره وحقيقته..

الأول الدين بالنسبة له هو: “هذا ما وجدنا عليه آباءنا”..

والتاني الدين بالنسبة له: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”..

الأول مش بيقبل الغلط.. ولا الضعف.. ولا الفشل..

والتاني بيقبل غلطه وضعفه وفشله.. وغلط وضعف وفشل الآخرين..

الأول ربنا عنده هو “غافر الذنب” بس.. أو “شديد العقاب” بس..

التاني ربنا عنده: “غافرُ الذنبِ وقابلُ التَّوبِ شديدُ العقابِ”..

قبل ما أخلص..

زي ما الأفراد ليهم تاريخ من النمو النفسي.. وأشكال من التثبيت والنّكوص عند درجات مُختلفة من سلم النضج الإنساني.. المجموعات كده.. والمُجتمعات كده.. والشعوب والأمم كده.. في علاقتهم بنفسهم، وبغيرهم.. وبربنا..

عاوز تعرف بقى انت فين؟ عاوز تعرف انت مين؟

اسأل نفسك..

انت قد إيه شايف اللي قُدامك وسامحله يكون نفسه؟

قد إيه بتقبل الاختلاف ووجود المُتناقضات والحيرة واللخبطة جوّاك وجوّه غيرك؟

قد إيه بتحكم على حد.. أو بتقدس حد.. أو بتحكم على نفسك أو تقدسها؟

قد إيه قابل خطأك وضعفك وفشلك.. وخطأ الآخرين وضعفهم وفشلهم؟

قد إيه مُستعد تبدأ من جديد.. كل يوم.. وكل ساعة.. وكل لحظة؟

الإجابة عن الأسئلة دي هاتقولك انت فين.. وانت مين..

د. محمد طه