فى أول يوم دراسة ليا فى بعثتى للدكتوراة بجامعة إسيكس بانجلترا، كانت أحد أهم وأكبر المفاجآت.. واللى لسه سايبة أثرها عليا لغاية دلوقت.. وهى طريقة التدريس.. أيون.. طريقة التدريس..
اللى أنا كنت أعرفه ومتعود عليه فى المحاضرات والسكاشن وغيره هو إن فيه مُحاضر.. وفيه طلبة.. المُحاضر بيحاضر.. والطلبة بتسمع وتركز.. لكن الموضوع هناك طلع حاجة تانية خااااالص..
اللى بيحصل هو إن الطلبة (سواء بكالوريوس أو ليسانس أو دراسات عليا أو حتى أولى ابتدائى) بيكون معاهم من أول السنة جدول مفصل بالمحاضرات وعناوينها وتواريخها ومين من الدكاترة هايدّى كل محاضرة..
ماشى.. عادى.. مش صعب.. نقدر نعمله هنا ببساطة..
لكن الجديد هو إن كل محاضرة بيكون مكتوب قدامها فى الجدول إيه أفضل مصدر ممكن تتذاكر منه.. يعنى الفصل الفلانى فى الكتاب الفلانى المنشور سنة كذا الطبعة الفلانية. أو المقال العلّانى فى العدد رقم كذا لسنة كذا.. ومكتوب كمان إيه المصادر الأخرى اللى ممكن يرجعلها أى حد عاوز يستزيد..
طيب.. برضه مش صعب.. ممكن نعمله هنا بشوية مجهود زيادة..
إنما الجديد أوى بقى.. هو إن السيد الدكتور المحاضر مش بيحاضر.. المحاضر دوره يناقش.. يناااااقش..
يعنى إيه..
يعنى بيكون مطلوب من كل طالب إنه يقرا موضوع المحاضرة من مصدرها.. ويفهمها ويستوعبها على قد ما يقدر.. وتكون المحاضرة عبارة عن مناقشة علمية حية بين الدكتور وبين الطلبة.. يسألهم ويسألوه.. ينقدهم وينقدوه.. يراجعهم ويراجعوه.. إيه.. يراجعوه؟
آه والله..
التعليم الحقيقي بيشجع على التفكير النقدى Critical Thinking.. يعنى نعلم الطلبة إن الكتاب بيقدم نظرية.. لكنه مش بيقدم حقيقة غير قابلة للنقاش.. وإن المقال بيقدم بحث علمى.. لا يكتمل إلا بنقده والاختلاف عليه.. وإن المحاضر والدكتور والأستاذ والعالِم مش إله منزه عن النقص.. هو إنسان عادى يخطئ ويصيب..
الأكتر من كده هو إن الطلبة بيتم تقييمهم على درجة تفكيرهم النقدى.. ودرجة حضورهم الذهنى فى المحاضرة.. وقدرتهم على الإجابة الجيدة على أسئلة المحاضر.. وكمان قدرتهم على سؤال المحاضر/الدكتور أسئلة جيدة قد يستطيع أو لا يستطيع الإجابة عليها.. وممكن هو والطلبة يتفقوا يدوّروا على الإجابة سوا فى المكتبة فى وقت لاحق..
مشهد المُعلم المُلقن والطلبة المستمعين/المستقبلين فى صمت أصبح غير موجود فى الجامعات ولا حتى المدارس الحديثة.. المحاضر اللى متصور إنه يعرف كل حاجة عن الموضوع اللى بيقدمه هو فى الحقيقة شخص لا يمت للعلم بصلة.. الدكتور اللى بيرتفع عن مستوى طلبته قدماً واحداً.. تكون قدمه الأخرى خارج الجامعة..
لكن إحنا مجتمعات تهوى التسلط.. وتحب التعالى.. وتعيش على التأليه..
إحنا عملنا سُلطة حتى فى العلم.. وطبقية حتى فى المدارس والحضانات.. وفوقية حتى داخل مدرج المحاضرات..
أقولكم الأصعب؟
الامتحانات والتصحيح..
طبعا الأسئلة المقالية دى بطّلوها من زمان لأنها مش بتحفز أى تفكير نقدى أو عصف ذهنى.. لكنها بتحفز فقط الحفظ والتذكر و(البخ) فى ورقة الإجابة.. ثم نسيان ما تم تقيؤه بعد الخروج من الامتحان بدقائق.. دلوقت فيه أنواع كتيرة ومختلفة جدا من الأسئلة ووسائل التقييم الجادة والحقيقية والموضوعية فى نفس الوقت.. واللى لا تتوقف بدرجة كبيرة على رؤية المقيم ومزاج المصحح وظروفه النفسية أو المعنوية أو المناخية..
ماينفعش المصحح يكتب على سؤال إنه غلط أو ينقّص عدد معين من الدرجات من غير ما يكتب سبب الغلط وليه نقّص ولو ربع درجة.. والطالب بتروحله نسخة من الامتحان المصحح (بالإيميل) ومعاه تعليقات وملاحظات ونصائح المصحح.. والطالب من حقه طبعاً يعترض على أى تعليق أو ملاحظة، ويحدد ميعاد مع الدكتور علشان يناقشه فى وجهة نظره ويراجعه فى تصحيحه.. ولو لزم الأمر.. يخضع الأمر للتحقيق..
ليه بقى كل ده..
علشان الهدف هو التعليم.. وبس.. الهدف هو فايدة الطالب.. وفايدة الدكتور.. وفايدة العملية التعليمية كلها.. مش السيطرة والفتونة والممارسة الرعناء لفهم خاطئ عن العلم.. والتعلم.. وعن الحياة نفسها..
الهدف هو بناء إنسان يقدر يفكر.. ويَنقد.. ويُفنّد.. ومايستسلمش لزرع أى أفكار من أى نوع من أى حد داخل عقله..
الهدف هو تكوين شخصيات قوية تقدر تقول (لأ) لأى فكر دخيل.. أو معرفة مشوهة..
مشرفى الإنجليزى فى الدكتوراة كان أحد أكبر علماء التحليل النفسي فى العالم وليه كتب مترجمة لكل لغات الأرض ومنها العربية.. لكن ده مامنعش إنه يكون فيه لجنة مكونة من ثلاث أساتذة (كلهم أصغر منه سناً ومقاماً) اسمها (لجنة الإشراف على المشرف).. الأساتذة دول كانوا بيقعدوا معايا ومعاه كل فترة يتأكدوا من سير عملية الإشراف ويطلبوا منى أكتب تقرير عنه وهو يكتب تقرير عنى.. وكل واحد مننا من حقه يطلع على التقرير اللى كاتبه فى التانى ونخضع جميعا للمناقشة والسؤال لتعديل المسار باستمرار..
الراجل ده استغرب جدا أول ما قابلنى ولاقانى بافتحله باب المكتب ومستنى يدخل هو قبلى- احتراما وإجلالاً :).. وقاللى -بعد ماطلب منى ماعملش كده تانى- إن رحلتنا مع بعض هاتمر بتلات مراحل.. فى الأول هايكون هو أستاذى وأنا تلميذه.. فى المنتصف هانكون عارفين بنفس القدر عن موضوع البحث/الدكتوراة.. وفى الآخر هايكون هو التلميذ وأنا الأستاذ (فى هذا الموضوع فقط طبعاً).. وده معناه نجاح شغلنا مع بعض..
وقبلها كان قايللى إن أى كلمة أو رأى أو توجيه هايوصلّه ليا هو فقط رأيه وموقفه الشخصى.. اللى من حقى أقبله أو أرفضه.. وأرد عليه.. وأختار غيره.. طالما بنيت كلامى على أساس علمى..
أنا ماعرفش كل اللى وصفته ده ممكن يحصل عندنا إمتى (وان كان موجود بالفعل فى بعض الجامعات الأجنبية بدولنا العربية، ومن بعض الأساتذة الحقيقيين فى باقى الجامعات).. لكنه لو حصل.. يبقى كل حاجة اتغيرت.. كل حاجة..
بس..
د. محمد طه