حكايتنا مع الماية حكاية غريبة جدًّا..
أول علاقة لينا مع الماية كانت في الرحم.. لما كان كل واحد فينا غرقان في السائل الأمنيوسي وعامل زي السمكة اللي عايشة في البحر.. حالة جميلة من المتعة والهدوء والدفا.. الأكل والشرب بيوصل لغاية عندك.. حي الأكسجين مش بتبذل أي مجهود علشان تحصل عليه.. قمة الأمان والاطمئنان والرفاهية.. ملك متوج على عرش الرحم.. ما فيش خوف.. ما فيش ألم.. ما فيش مسئولية.. جنة كاملة بكل مواصفاتها وتفاصيلها..
لغاية ما يجي اليوم الموعود.. وتتزلزل الأرض من تحتك.. وتنهار السما من فوقك.. وتنفجر شلالات المياه من كل ناحية، وتنقبض عليك جدران الرحم بكل قسوة، علشان تطردك من جنتك زي ما أبوك آدم اتطرد من جنته بالظبط.. وتنزل على الأرض.. ويبدأ الخوف، والألم، والمسئولية..
زي ما قولنا قبل كده، كتير من الأمراض النفسية يمكن تفسيرها من وجهة نظر معينة على إنها رجوع للخلف Regression في تاريخ تطورنا ونمونا النفسي لغاية آخر لحظة كنا فيها في أمان وتوازن نفسي.. ومن أصعب الأمراض دي مرض الفصام اللي المريض بيرجع فيه لغاية المرحلة الفمية من نموه النفسي (تبدأ من الولادة حتى سن سنتين)، واللي كان فيها بيهلوس ويتخيل حاجات مش موجودة يسلي بيها نفسه في غياب أمه.. فيه مرضى قليلين جدًّا بيرجعوا أكتر شوية لغاية حياة الرحم.. ويصيبهم شكل من أشكال التخشب (الكتاتونيا) اللي بياخدوا فيه وضع الجنين.. علشان ده الوضع والوقت والمكان الوحيد اللي كان فيه أمان بالنسبة ليهم..
فيه كمان ظاهرة شهيرة جدًّا في بعض المرضى النفسيين اللي عندهم أمراض زي الفصام، والهوس.. وهي إنهم بيحبوا الماية ويبقوا عاوزين يشربوا ماية كتير جدًّا.. لدرجة أن بعضهم بيحصلّه مشاكل عضوية بسبب زيادة نسبة الماية في الجسم (تسمم المياه).. ورغم إن فيه تفسيرات كتير للظاهرة دي.. لكن من أهم تفسيراتها النفسية هي رغبة المرضى دول في الاتصال بالماية والغوص فيها زي ما كانوا زمان في الرحم.
السؤال بقى.. هو إحنا فاكرين حياتنا في الرحم؟
هو عقلنا لسه محتفظ بذكرياتنا في بطون أمهاتنا؟
هي قدرات ذاكرتنا تقدر توصل للدرجة دي؟
والإجابة بكل وضوح ومباشرة: نعم.. أيون.. فعلاً.. جدًّا..
فيه عالم نفسي شهير اسمه ستانيسلاف جروف Stanislav Grof، عمل مجموعة هائلة من الأبحاث والتجارب على كتير من الناس في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي (وما زال لغاية النهاردة)، باستخدام طريقة معينة يخليهم بيها يغيبوا عن الوعي شوية، ويدخلوا في حالة من الخيالات والأحلام والرؤى.. ويسألهم لما يفوقوا هما شافوا إيه أو حسّوا بإيه.. ويخليهم يسجلوا أو يرسموا اللي شافوه.. كتير جدًّا من الناس كانوا بيوصفوا إحساسهم بأنهم كانوا زي السمكة في البحر.. وبعضهم وصف بشكل تفصيلي إحساسه جوه مكان مغلق مليان ماية، وبعضهم رسم بوضوح شديد رحم مقفول فيه فتحة صغيرة داخل منها نور.. بعض الناس كمان وصفوا شعورهم بالاختناق.. أو بالضغط الشديد حواليهم.. أو بالزهق والضيق..
(جروف) بيفسر ده بأننا كلنا عندنا –على مستوى ما من مستويات وعينا- مخزون هائل من ذكريات وجودنا في الرحم، ورغبة دائمة في العودة ليه.. والذكريات دي مش بس موجودة في ذاكرتنا المُخّية.. لا.. دي موجودة في جسمنا وخلايانا فيما يُعرف حديثًا باسم (الذاكرة الخلوية).. أو (ذكريات الخلية).. وأن الذاكرة دي موجود فيها كل الخبرات اللي مرّينا بيها في الرحم.. اللي بعضها ممكن يكون جيد وجميل وممتع.. وبعضها ممكن يكون صعب وسيئ نتيجة رسايل نفسية بتوصل للجنين من الأم (مش عايزاك، إنت جيت غلطة، يا ريت تنزل) أو تغيرات كيميائية بتحصل في الدم الواصل ليه من خلالها مع تغير حالاتها النفسية أو العضوية.
مش بس كده.. ده الكلام ده بيفسر حاجات كتير تاني..
عمرك حلمت أو تعرف حد حلم بالبحر؟
شوفت في المنام قبل كده أو حد حكالك إنه شاف نفسه (أو حد تاني) بيعوم أو بيغرق؟
بتحب أو تعرف حد بيحب ينام في وضع الجنين؟
كل ده ليه نفس التفسير، ونابع من نفس المصدر الداخلي، اللي محتفظ بكل ثانية وكل تفصيلة من مرحلة هامة جدًّا في وجودك.. مرحلة حياة الجنين.. اللي كنت بتعوم فيها في بحر الرحم بأمواجه ومده وجزره..
المرحلة دي بتكون (الولادة) بالنسبة لها بمثابة (النهاية).. نهاية الجنة والمتعة والنعيم.. علشان كده فيه نظرية كاملة في علم النفس اسمها نظرية (صدمة الولادة)..
فيه حلم شهير بيتكرر عند بعض الناس.. بنسميه حلم نهاية العالم.. بيكون فيه العالم بينتهي وبيتدمر.. ساعات زلزال.. ساعات ماية من كل ناحية تغرق الناس والمباني.. ساعات رياح وعواصف ومطر.. أحد تفسيرات الحلم ده هو إنه وصف تفصيلي للحظة الولادة اللي انهار فيها عالم الجنين وانتهت فيها حياة الرحم..
فيه كمان علماء بيفسروا رغبة بعض الناس في الموت بأنها أحد صور رغبتهم الأعمق في العودة للرحم.. المكان المقفول المظلم اللي ما كانش فيه غير السكون والهدوء والفراغ. لكن طبعًا دي صورة مريضة جدًّا تستدعي العلاج النفسي المكثف.
فيه ناس كمان بتقول إن مجرد (النوم) هو استعادة لذكريات السبات العميق داخل الرحم.. وأنا شخصيًّا شايف إن (الحضن) هو البديل اليومي الطبيعي المتاح لاسترجاع مشاعر حضن الرحم.
واضح إن الموضوع كبير جدًّا.. بس مش معناه على الإطلاق إن اللي بيحب البحر والماية يبقى عاوز يرجع أو ينكص.. أو إن الحنين للرحم ده شيء مرضي أو مستهجن.. بالعكس.. دي حاجة طبيعية موجودة عند كل الناس في أحد مستويات وعيهم.. وممكن تكون دافع للحركة وطاقة للنضج وأرضية متجددة للحياة..
طيب.. إيه بقى ؟!
بص يا سيدي..
إحنا في رحلة.. بدأناها مختارين أو مضطرين أو الاتنين.. رحلة بدأناها في الجنة.. جنة آدم.. وبنسعى في حياتنا إننا نرجع ليها تاني.. بالعمل والمشقة والصبر.. بالمعاملة الحسنة والأخلاق الطيبة والقرب الحقيقي من نفسنا ومن الناس ومن ربنا.
بعض الناس عاوزة تستسهل وتوصل بسرعة.. من خلال طرق مختصرة.. تبعد فيها عن الناس وتكرههم وتحكم عليهم وتسئ معاملتهم تحت ادعاءات فارغة، وتبعد عن نفسها وتحقر من شأنها وتتفنن في ذلها بمسميات مغلوطة، وتتصور إن ده بيقربها من ربنا.. مع إنه في الحقيقة مش بيقربنا من أي حاجة..
فيه صورة مصغرة للرحلة دي.. بدأناها في الرحم.. وجوانا كمان رغبة دائمة للعودة ليه.. بعض الناس برضه عاوزة تستسهل وتوصل بسرعة.. من غير خوف.. من غير ألم.. من غير مسئولية.. مرة بالمرض النفسي.. مرة بالرغبة في الموت.. مرة بالهروب من الناس.. لكن ده في الآخر مش بيوصل لأي حاجة..
البحر حلو وجميل ومغري..
لكن علشان تعوم..
مهم تبذل شوية مجهود ومعافرة وكفاح..
ساعات هاتمشي عكس التيار..
ساعات هاتقف في وش الموج..
ساعات هاتقاوم بكل قوتك..
الاستسلام للغرق سهل..
بس رحلة الحياة مليانة شرف..
بعد ما تخلص المقال ده.. عاوزك تشوف فيلم (جرافيتي) Gravity، وتركز في المشهد المبدع اللي بتظهر فيه بطلة الفيلم في وضع الجنين داخل مركبتها الفضائية، بعد ما انتهت بيها كل المحاولات.. وضاقت بيها جميع السبل.. لكنها بعد دقائق.. تقرر إنها ما تستسلمش.. وإنها تقبل صعوبة الحياة.. وتتجاوز ألم الفقد.. وتغامر وتجازف وتقتحم الخطر.. وتنزل على الأرض.. وتخطو خطواتها الأولى نحو الحياة.. على شاطئ البحر.. وكأنها لسه بتتعلم المشي..
وأخيرًا.. قوم بقى اشرب شوية ماية.. وكأنك بتشرب للمرة الأولى.. حس بيها.. استطعمها.. واكتشف معايا.. إن الماية مش زي ما كانوا بيعلمونا في المدرسة ما لهاش طعم ولا لون ولا رائحة.. الماية –على رأي د. مصطفى محمود- ليها طعم الحياة..
ياللا.. هنا ودلوقت..
جدد علاقتك بالماية..
جدد علاقتك بالحياة..
د. محمد طه