تصوّر لما يكون مصدر إحساسك بنفسك في الدنيا هو إن حد بيكرهك..

تصوّر لما يكون شعورك بوجودك مرهون بوجود ناس بتحسدك وبتراقبك وبتتآمر عليك..

تصوّر إنك ما تحسش بقيمتك وبأهميتك إلا من خلال ناس عاوزة تسمّك وتموّتك وتخلص منك..

زي ما قولنا.. من أصعب الأمراض النفسية على الإطلاق مرض (الفصام)، وهو واحد من فصيلة أكبر من الأمراض اسمها الأمراض الذهانية.. أول وأهم عرضين في الفصام (الجنون) هما الضلالات والهلاوس (فيه طبعًا أعراض أخرى كتير).. ضلالات يعني أفكار خاطئة وصاحبها مصدّقها لدرجة لا تقبل الشك، وهلاوس يعني المريض يستقبل حاجات مش موجودة في الحقيقة.. يسمع أصوات غريبة، يشوف صور ومشاهد مش حقيقية، يحس بحاجات محدش غيره يحس بيها وهكذا..

المهم.. كل دي أعراض مرضية، معروفة ومكتوبة بشكل أدق وأفضل في كتب الطب النفسي وعلم النفس.. لكن.. دي مش كل الحكاية.. ومش غاية المقصد..

الحكاية –من وجهة نظري- هي إيه اللي ورا الأعراض الغريبة دي، إيه معناها وإيه سببها؟ جاية منين ورايحة فين؟ المريض عاوز يقول إيه من خلالها؟

يعني إيه حد يبقى متأكد إن الناس بتكرهه وعاوزة تموته؟

ليه حد يتصور إن فيه كاميرات بتراقبه أو فيه سم في الأكل؟

إزاي حد يشوف حاجات مش موجودة، أو يسمع أصوات مش حقيقية؟

طبعًا فيه تفسيرات كتير، وإجابات أكتر.. منها الوراثي والجيني والبيولوجي والكيميائي.. وكلها قائمة على نظريات علمية غاية في الدقة، لكن الأهم والأدق منها جميعًا هو التفسير النفسي.. اللي ليه علم قائم بذاته.. اسمه علم السيكوباثولجي..

تصور حد وصلته رسائل نفسية في طفولته وأثناء تربيته -وساعات في معظم فترات حياته- إنه مش مهم.. وإنه ما لهوش قيمة.. رسائل من نوعية (إنت ما لكش لازمة).. (يا ريتنا ما خلفناك).. (كان غيرك أشطر).. (إنت زي    قلتك)..

تصوّر حد كل اللي شافه من اللي حواليه حب بشروط وقبول بشروط واهتمام بشروط..

تصوّر حد كان مضطر طول الوقت إنه ما يبقاش نفسه، ويدفنها علشان خاطر اللي حواليه يرضوا ويقولوله برافو.. ويدفن معاها حقيقته وتلقائيته وإبداعه..

الشخص ده نفسيته هاتبقى عاملة إزاي؟

بلاش كده..

حد بيتقاله بالكلام اختار مستقبلك واعمل اللي إنت عاوزه.. ويتقاله بالتصرفات إوعى تكون غير المشروع اللي أنا عاوزه..

أو واحدة يتقالها بالكلام إنتي حرة ومعززة ومكرمة.. ويتقالها بالتصرفات إنتي عار ووجودك جريمة وذنب..

كل دول هايكونوا عاملين إزاي من جوه؟

إحساسهم بنفسهم هايكون إيه؟

علاقاتهم بنفسهم وبالعالم هاتاخد أي شكل؟

بدون الدخول في تفاصيل مؤلمة.. دول هم المادة الخام والتربة الخصبة للمرض النفسي.. كل واحد منهم هو عبارة عن مشروع مريض نفسي من الدرجة الأولى.. قنبلة موقوتة مستنية لحظة الانفجار.. في وجود بعض العوامل الجينية والبيولوجية طبعًا..

الأمراض النفسية باختصار شديد جدًّا هي  إما جنون، أو دفاعات ضد الجنون (على رأي د. يحيى الرخاوي).. يعني اللي هايقدر منهم يستحمل واقعه المؤلم، ويحتفظ ببعض من عقله في مواجهة تربيته وظروفه وجيناته، هايصاب بأمراض زي الاكتئاب والقلق والجسدنة واضطرابات الشخصية.. أما اللي مش هايقدر يستحمل الواقع والظروف والضغوط والصدمات النفسية اللي شافها طول عمره، فده اللي هايقرر بشكل واعي أو غير واعي إنه ينفصل (ينفصم) عن الواقع ده تمامًا، ويخلق الواقع بتاعه هو.. (علشان كده سمّوه فصام)..

وهنا لينا وقفة.. عند جملة (يخلق الواقع بتاعه هو)..

اللي شافه مريض الفصام من واقعه وحياته والناس اللي حواليه أصعب بكتير من تحمله وقدراته النفسية والعقلية.. علشان كده هو بيقرر إنه يسيب العالم ده كله على بعضه، ويعيش في عالم خاص بيه هو لوحده.. فيه ناس هو اللي   يصنعهم، وأحداث هو اللي يصيغها، وتفاصيل هو وحده اللي يتحكم فيها.. فيبدأ يخلق أشكال وألوان وبني آدمين.. ليهم صوت وصورة وحياة.. وينسج حكايات وروايات وسيناريوهات.. ويصدق أفكار ومعتقدات وشكوك..

طيب.. المنطقي إنه طالما اللي شافه قبل كده في حياته حاجات وحشة، وخبرات مؤلمة.. يبقى يخلق شخصيات جميلة وطيبة، وأحداث هادية ولطيفة وخفيفة.. في الحقيقة ده ساعات بيحصل، بس مش دايمًا.. اللي بيحصل أكتر هو العكس.. ورغم إن ده غريب.. لكنه مثير للشفقة لأقصى درجة..

ليه؟

أقولك ليه..

مريض الفصام وصلته رسالة في مرحلة ما في حياته أنه مرفوض.. إن وجوده مش مرغوب فيه.. إن كيانه مالهوش أي قيمة ولا لازمة ولا أهمية حتى لأقرب الناس ليه.. يبقى في الحقيقة هو من جواه بيتمنى أي شكل من أشكال الوجود، وأي درجة من درجات القيمة والأهمية.. وهنا الغلب والوجع الحقيقي..

مريض الفصام بيتمنى من جواه إنه يحس بوجوده.. حتى لو معنى ده إن فيه حد بيكرهه.. حتى لو من خلال حد هو بيخلقه ويتصور إنه هايحطله السم في الأكل.. هو يعني كان عرف يعني إيه حب من أصله؟ هو لقى حب وقال لأ؟ هو العالم الداخلي بتاعه فيه غير كده؟ ده يا دوب بيدور على أي حد.. إن شالله حد يكرهه ويتآمر عليه ويبقى عاوز يموته.. ما هو معنى كده إنه موجود.. وإنه مهم.. وإنه ليه قيمة.. وقيمة كبيرة كمان.. ده بعض المرضى من غلبهم بيتصوروا إنهم أنبياء أو (المهدي المنتظر) من كتر احتياجهم الشديد للاهتمام والشعور بالقيمة والأهمية.. لا حول ولا قوة إلا بالله..

 تصوّر شدة وعمق الاحتياج اللي يخلي حد يخلق أصوات مخيفة، وأشكال ناس مرعبة، ويصدق إنهم بيراقبوه، وبيكرهوه، وعاوزين يخلصوا منه، علشان ده يحسسه بوجوده وبقيمته.. تصور ضعف وغلب حد بيشك إن أي اتنين بيكلموا بعض يبقى بيتكلموا عليه لأنه هايموت ويحس إنه مهم عند أي حد، حتى لو هايتكلم عليه.. مريض الفصام بيصرخ من خلال أعراضه ويقول: أناااا موجوووووووودد..

وطبعًا المصدر الأساسي والرئيسي لكل الهلاوس اللي بيخلقها وكل الضلالات اللي بينسجها هو العالم الداخلي بتاعه، اللي مليان كائنات مخيفة وأشكال مرعبة وأصوات صارخة اتكونت جواه من خلال كل اللي وصله عن نفسه وعن الآخرين طول حياته.

ولو ما نفعش كل ده.. يرجع في عمره العقلي شوية، ويهلوس بالمية والبحر والغرق.. اللي بيفكروه بالسائل اللي كان بيعوم فيه في المكان الوحيد اللي   حس فيه بالأمان.. رحم أمه..

ولو ده كمان ما نفعش.. ينفصل تمامًا عن الحياة.. ويجيله كتاتونيا (تخشب) تخليه زي أي نبات أو جماد.. لا ياكل ولا يشرب ولا يتحرك..

طبعًا ده تفسير مبسط جدًّا ولا يمكن تعميمه.. فيه تفسيرات كتير.. وأعراض أكتر..

مريض الفصام مصاب في أعمق أعماق نفسه..

مصاب في وجوده ومعناه وقيمته وأهميته..

مصاب بشعوره الشديد بالرفض اللي وصله بشكل قاسي ومتتابع..

إزاي ما يتجننش يعني؟

نرجع هنا تاني بقى.. عندك وعندي.. وعند أصحابنا وحبايبنا وأولادنا وقرايبنا.. وقول كمان..

الدفاع القوي الناجع ضد كل الأمراض النفسية- مهما تطور العلم وزادت الأبحاث، هو وجود إنسان (ولو واحد) قابلك ومهتم بيك وبيحبك حب حقيقي غير مشروط..

خط الرجعة الأخير ضد الاكتئاب والقلق واضطرابات الشخصية، في وجود كل أنواع الأدوية والعقاقير، هو علاقة إنسانية يوصلك فيها إنك من حقك تكون نفسك.. من غير ما تدفع أي تمن..

حائط الصد الصلب ضد الذهان والفصام والجنون، بالرغم من نجاح بعض الطرق الأخرى، هو إنك تصدق إنك تستاهل تعيش، وتستاهل تفرح، وتستاهل تتحب.. وإن ده حقك..

تستاهل تعيش..

وتستاهل تفرح..

وتستاهل تتحب..

وده حقك..

جرب تقول كده:

أنا أستاهل أعيش..

وأستاهل أفرح..

وأستاهل أتحب..

وده حقي..

 

د. محمد طه