(1)
طبيعي جدًّا يكون جوانا غريزة للحياة.. دافع للبقاء.. حاجة بتحرك كل واحد فينا للاستمرار في الدنيا..
غريزة الحياة دي بتعبر عن نفسها بطرق كتير جدًّا.. منها الجوع.. اللي بيدفعك إنك تاكل علشان تمد جسمك بشوية طاقة كل كام ساعة، والعطش.. اللي بيخليك تروي خلاياك بوقود الحياة طول الوقت، والجنس.. اللي بيمنحك متعة جسدية ونفسية هائلة تساعدك على تحمل بعض مشاق المعيشة، وفي نفس الوقت بيحافظ على استمرار النوع البشري على الأرض إلى ما شاء الله..
مش بس كده..
الحب.. هو وجه من وجوه غريزة الحياة.. لأنه بيقربك من الناس.. وده في صالح الحياة واستمرارها وجودتها..
الصداقة.. وجه تاني من وجوه غريزة الحياة.. علشان بتخلي حواليك صمام أمان من العلاقات الصحية اللي ممكن تحميك (نفسيًّا) وقت اللزوم..
الشغل.. السفر.. الاكتشاف.. الإبداع.. النجاح.. الفرحة..
وغيرهم.. وغيرهم..
وجوه الحياة وغرائزها كتير جدًّا.. وكل ده طبيعي ومفهوم..
الغريب بقى.. هو إنه زي ما فيه جوانا غريزة للحياة.. فيه برضه جوانا غريزة للموت!!
يعني الناس اللي بتنتحر مثلاً، دول ناس انتصرت فيهم غريزة الموت على غريزة الحياة.. والناس اللي بتقتل، دول قاموا بتوجيه غريزة الموت اللي جواهم لخارجهم.. والناس اللي بترهب غيرهم أو ترعبهم، دول برضه ناس بيعبروا عن غريزة الموت اللي جواهم بهذا الشكل الفج..
مش بس كده برضه..
أحد وجوه غريزة الموت، إن حد يستعذب الألم..
كلمة صعبة؟!
يستعذب الألم يعني يستمتع بالألم.. وساعات يسعى إليه.. وزي ما يكون بيعمل دماغ لما يتألم..
هو فيه كده؟
آه فيه كده!
لما حد يتعرض لتجربة مؤلمة أو لخبرة مخيفة، وبعد ما يطلع منها، يدخل في تجربة زيها بالظبط، وتكون نهايتها برضه مؤلمة أو مخيفة- على الأقل بنفس الدرجة.. ده وجه من وجوه غريزة الموت اللي جواه..
لما واحدة تكون دخلت في علاقة حب/ صداقة/ زواج، طرفها التاني كان قاسي، ومهمل لمشاعرها، وغير محترم لإنسانيتها، وعاوز يفصلها على مقاسه.. وبعد ما تنتهي العلاقة.. تيجي بكل بساطة تدخل في علاقة جديدة، تختار فيها حد له مواصفات شبه الشخص اللي فات بالظبط.. وتمشي معاه نفس طريق القسوة والألم تاني.. وتكرر ده مرارا وتكرارا.. ده أحد وجوه غريزة الموت اللي جواها..
لما واحد بيقعد يلوم نفسه (بشكل مرضي مبالغ فيه) عمال على بطال، مع كل خطوة، وكل فعل، وكل حركة.. يعلق لنفسه كل يوم مشنقة، ويجلد نفسه كل ليلة كام جلدة.. أهو ده بيمارس غريزة الموت كل يوم وكل ليلة..
لمّا حد يتفنن في إيلام نفسه وإيذائها (سواء نفسيًّا أو جسمانيًّا).. مرة بالشعور الزائد والمرضي بالذنب، ومرة بإنه يظلم نفسه بأي شكل وبأي طريقة، ومرة بإنه يتعب نفسه ويهلك أعصابه ويستنزف كل وجوده وحياته في شغله أو علاقاته على حساب نفسه وحقوقها.. كل دي صور ووجوه كتير جدًّا لغريزة الموت..
طبعًا فيه وجوه أقرب وأوضح وأشهر من كده بكتير..
اليأس وجه من وجوه الموت..
الكُره.. الغضب.. الحزن.. الاستسلام..
وطبعًا.. النوم.. اللي بنموت فيه كل ليلة.. ونصحى تاني يوم..
(2)
غالبًا اتكونت عندك دلوقت فكرة عن باقي الفصل.. اللي المفروض أقولك فيه: حافظ على غريزة الحياة.. وتخلص من غريزة الموت.. أو توقع الموت في أي لحظة واستعد له.. أو الموت علينا حق..
لكن في الحقيقة.. ده مش هايحصل..
مش هايحصل علشان الموت جزء منك.. جزء حي.. عايش جواك.. وما ينفعش تتخلص منه.. ولا ينفع تتجاهل غريزته الكامنة داخلك..
وعلشان في نفس اللحظة اللي بتتولد في جسمك خلايا جديدة.. بتموت قصادها خلايا تانية.. حتى وإنت بتسلم على حد بإيدك، بيموت الآلاف من خلايا جلدك بمجرد الاحتكاك..
وعلشان إنت بتموت كل ليلة، وتصحى تاني يوم..
الموت جزء من تكوينك الإنساني..
وجزء من تركيبك النفسي..
وساكن معاك في نفس الجسد..
حد سأل نفسه مرة ليه أفلام جيمس بوند ومهمة مستحيلة واللي زيهم بيحققوا أعلى دخل ومبيعات؟ الإجابة ببساطة– كما أعتقد- هي علشان النوعية دي من الأفلام بتخاطب الغريزتين الأساسيتين عند كل البشر: غريزة الحياة (البنت الحلوة اللي دايمًا تيجي مع البطل)، وغريزة الموت (البطل اللي طول الفيلم عمال يقتل أعدائه ويتخلص منهم)..
ولنفس السبب نلاقي أغاني الحزن والألم والعذاب رائجة زيها زي أغاني الفرح والبهجة والأمل (إن ما كانش أكتر)..
وأفلام الرعب ومصاصين الدماء بتنتشر وبتزيد ويتعمل لمعظمها جزء تاني وتالت وحتى سابع.. لأنها بتخاطب- على مستوى عميق جدًّا- غريزة الموت اللي جوانا.. اللي جوانا كلنا..
إيه ده؟
فيه إيه؟
إهدى كده.. وكمّل بالراحة.. وإنت تعرف فيه إيه!
(3)
إحنا اتعلمنا إن الموت وحش.. رغم إنه حتة مننا، وحفظنا إنه شر.. رغم إنه بيصحى معانا وينام معانا، وصدقنا إنه بعيد.. رغم إنه عايش جوا كل حد فينا..
تفتكر ينفع إننا نتخلص منه؟
ينفع إننا نقطعه ونرميه ونعتبره مش موجود؟
ينفع إننا نفضل نتعامل مع أحد أهم حقائق الكون على إنها وهم؟
ما أعتقدش..
أمال إيه اللي ينفع؟
اللي ينفع بجد.. هو إننا نقبله..
نقبل وجود الموت فينا.. داخلنا..
ونشوفه على إنه الوجه الآخر من وجودنا، مش نهاية وجودنا..
ونصدق إنه بيكمل الحياة.. مش بياخد منها..
وإنه إضافة.. مش نقصان..
يمكن ده يصالحنا شوية على الموت اللي برَانا..
موت الأحبة والغاليين..
وموتنا إحنا شخصيًّا..
فيه فيلم رائع اسمه Meet Joe Black، في الفيلم ده بيقوم العبقري (أنتوني هوبكنز) بدور رجل أعمال كبير وشهير جدًّا بيفاجأ بأن ملك الموت جاي يزوره في بيته ويقضي معاه كذا يوم وبعدها هايقبض روحه.. ومن اللحظة دي بتتقلب حياته رأسًا على عقب..
(أنتوني هوبكنز) طول الفيلم كان في رحلة.. رحلة قبول موته.. وفي اللحظة اللي قبل فيها موته.. بطل يخاف منه، وبطل يترقبه، وعرف يعيش/ يحيا بجد.. وضرب مثل عميق جدًّا (حتى لملك الموت نفسه- كما يدعي الفيلم)، في معنى الحياة، ومعنى الحب، ومعنى الوجود..
وقت ما جاءت النهاية.. هو شخصيًّا اللي بادر بأخذ إيد ملك الموت.. وسط أجواء احتفالية تليق برحلته..
زي ما قبول الضعف.. قوة..
وقبول الفشل.. نجاح..
وقبول الحزن.. حكمة..
قبول الموت.. حياة..
(4)
إحنا محتاجين..
لا..
أنا مش عاوز دلوقت أتكلم بصيغة إحنا.. ولا إنت..
ده مش وقت صيغة المخاطب.. ده وقت صيغة المتكلم..
أنا عاوز أتكلم بصيغة (أنا).. وعاوزك تقرا الكلام اللي جاي بصوت عالي بنفس الصيغة..
صيغة (أنا)..
أنا جوايا موت، وجوايا حياة.. ما ينفعش أتخلص من واحدة منهم، أو أستغنى عنها..
أنا جوايا موت، وجوايا حياة.. زي ما جوايا ضلمة وجوايا نور.. الاتنين بيكملوا بعض.. بياخدوا من بعض، ويدوا بعض..
أنا جوايا موت، وجوايا حياة.. متضفرين في بعض، ماشيين مع بعض، ساعات في نفس الاتجاه..
اللحظة اللي هاقبل فيها الموت اللي جوايا، هي نفس اللحظة اللي هأقبل فيها غضبي وما أسمحش له إنه يتملكني ويسيطر عليا..
اللحظة اللي هأقبل فيها الموت اللي جوايا، هي نفس اللحظة اللي هأقبل فيها خطأي وفشلي وضعفي وتقصيري وما قفش عندهم ولا أخليهم يعطلوني..
اللحظة اللي هاقبل فيها الموت اللي جوايا، هي نفس اللحظة اللي هايلتحم فيها فجوري بتقواي..
هي اللحظة اللي هاسمح لنفسي فيها إني أحزن في هدوء.. وأتألم في حكمة.. وأصبر في ثبات..
هي اللحظة اللي هاقبل فيها الخوف والانكسار وساعات خيبة الأمل..
هي اللحظة اللي هاسامح فيها نفسي.. وأسامح غيري..
هي لحظة ما يجتمع جوايا كل أبيض وأسود.. ويتآلف كل يمين وشمال.. ويتصالح كل نقيض مع نقيضه..
هي لحظة إن نفسي تبقى نفسي.. كل كامل متكامل.. ملتئم ملتحم.. رائع بنقصانه.. وجميل بفنائه..
هي لحظة إني أكون بني آدم.. أخيرًا..
على فكرة أنا شخصيًّا ما وصلتش لسه للحظة دي.. لأنها مش لحظة.. هي رحلة.. بس أعتقد إني حاليًا على نقطة ما في الرحلة دي.. والله المستعان..
إوعى تكون بطلت تقرا بصوت عالي وبصيغة (أنا)..
طيب..
اقراها تاني من الأول بصوتك..
وعنك إنت..
د. محمد طه