كتير جدًّا مننا عايشين حياتهم جوه صندوق.. صندوق صغير مصنوع من طريقة معينة في التفكير، طريقة معينة في الشعور، طريقة معينة في التصرف والتعامل مع الآخرين.. فرضيات معينة عن الدنيا والعالم والناس.. ردود فعل جاهزة على المواقف المختلفة..  وساعات نمط ثابت من المشاعر المتكررة على مدار الوقت.

بعض الصناديق دي بتكون مرضية.. واللي عايش جواها مريض أو مجموعة من المرضى.. وبعضها مش بيكون مرضى.. لكنه في نفس الوقت مش طبيعي ومش صحي، حتى لو بدا كذلك.. لأنه مش الطبيعي إننا نعيش حياتنا جوه صناديق مغلقة علينا وبس..

اللي عنده شوية أفكار أو معتقدات أو مخاوف وشايف ومتصور ومصدق إنه هو الوحيد اللي صح وكل الناس غلط..

اللي حابس نفسه في كام فكرة، ومش راضي يشوف غيرها..

واللي محبوس جوه مخاوفه ومش بيحرر نفسه منها..

واللي ساجن عقله في شوية تصورات ومعندهوش أي استعداد يسمع أي صوت غير صوته، ولا يشوف غير اللي في دماغه، ولا يحط أي احتمال غير اللي هو متأكد إنها حقائق لا تقبل التشكيك..

كل دي صناديق..

اللي عايشة مع أولادها في دايرة مغلقة وموصلة ليهم إنها مصدر كل حاجة في الدنيا من حب وحنان واهتمام وعطاء (في غياب أو حتى في وجود أبوهم)..

اللي بيحبوا بعض ومستغنيين ببعض عن الدنيا كلها، وكل واحد فيهم شايف إن التاني هو الماضي والحاضر والمستقبل..

اللي معيشة جوزها في اختبارات نفسية طول الوقت علشان تشوف قد إيه هو بيحبها أو قد إيه هو مستحمل، أو قد إيه نفسه طويل..

اللي بيتعامل مع ابنه أو بنته أو حبيبه أو مراته على إنهم ملكية خاصة ليه.. كل دي برضه صناديق..

صندوق الناس والمجتمع.. صندوق العادات والتقاليد.. صندوق إني لازم أكون الأحسن في كل حاجة وإني ما ينفعش أغلط أو أضعف أو أفشل.. صندوق التمسك والتعلق بحد على حساب نفسي.. صندوق دور الضحية أو الجاني أو المنقذ.. صندوق المغالاة والتطرف في فهم الدين السمح الرفيق.. صندوق الرفض والشك والخوف من الآخر طول الوقت.. صندوق الطلاق اللي حاطط يافطة جواز.. صندوق العيال اللي هاضحي بنفسي وبحياتي علشانهم.. صندوق الشغل اللي غرقان فيه وأنا أصلا ما اخترتهوش ومش بحبه..

صناديق مغلقة، ودواير مقفولة، بيعيش فيها أصحابها وهما مغميين عنيهم وساعات عيون اللي حواليهم كمان.. وممكن يفضلوا كده لغاية ما يموتوا.. وهما ما يعرفوش مجرد معرفة إنه فيه عالم تاني مختلف تمامًا بره صناديقهم.. وإنه فيه حياة كاملة بره سجنهم..

على فكرة.. دي بس مجرد أمثلة.. لكن في الحقيقة كل حاجة ممكن تبقى صندوق.. كل حاجة.. إحنا ممكن نعمل من كل حاجة وأي حاجة صندوق ضيق نعيش فيه ونتشبث بجدرانه ونرفض نتخلى عنها مهما كانت هشة..

اللي ربنا بقى يكرمه ويخرج بره صندوقه، ويتحرر من سجنه.. هايحس بالظبط زي طفل صغير بيشوف العالم من أول وجديد، وبيكتشف نفسه والدنيا والناس..

طيب إزاي نخرج بره صناديقنا..

اللي يخرجنا بره صناديقنا هو أولا إننا نصدق إنه فيه عالم كامل وجديد ومختلف عن كل اللي نعرفه وكل اللي عيشناه مهما كنا مصدقينه..

وثانيًا إننا ننوي ونقرر نخرج بكل شجاعة حتى لو كان الخروج مخاطرة.. هو فيه أي حاجة مفيدة ما فيش وراها مخاطرة؟

وثالثًا يا ريت ما تكونش لوحدك.. يكون فيه حد معاك، يساعدك وياخد بإيدك.. يونسك ويوريك الطريق.. ويكون رفيقك في رحلتك.. الحد ده ممكن يكون صديق، زوج.. زوجة، معالج، أو حد قابلته صدفة.. وطبعًا لو ما فيش حد معاك.. ربنا موجود..

ولو مش عارف تبدأ منين وإزاي وفين.. هأقولك ما تستعجلش. هوّن على نفسك.. مجرد إنك تشوف إنك كنت عايش جوه صندوق دي بداية كويسة جدًّا.. اصبر.. والباقي هايجي لوحده وفي ميعاده.. صدقني..

أول بقى ما تخرج بره الصندوق.. وتقرر تفتح عينيك وودانك وقلبك.. هاتكتشف الخدعة اللي كنت فيها.. وهاتشوف العالم اللي ما كنتش سامح لنفسك تعرف عنه حاجة.. وهاتعمل علاقات جديدة بأفكار ومشاعر مختلفة جدًّا.. هاتشوف وتسمع وتحس كل حاجة وكل حد كأنك أول مرة تعيش، وأول مرة تتنفس، وأول مرة تتولد.. ما تستغربش من التعبير ده.. إحنا ممكن نتولد من جديد كل يوم..

كفاية بقى صناديق..

وياللا نشوف النور..

ياللا..

مستني إيه..

 

د. محمد طه