عشت في إنجلترا سنتين لما كنت بحضر الدكتوراه في الطب النفسي.. فوجئت بعد شوية إن أحد المشرفين عليّا كان بيشتغل عازف جيتار بعد الضهر.. طبعًا وقتها كنت- ما شاء الله- متحلي بالعقلية المجتمعية الشرقية العظيمة.. والراجل نزل من نظري، واكتأبت، وبقيت ببصله من فوق لتحت، وكانت حالتي حالة..
فكرة إن حد يشوف إنه مش بيحب شغله وإنه اتفرض عليه دي أصلا فكرة محتاجة قدر كبير جدًّا من الشجاعة والتحمل والإقدام وساعات التهور.. خاصة في مجتمع زي مجتمعنا.. لكنها تكاد تكون حاجة عادية جدًّا في مجتمعات تانية زي أوروبا وأمريكا والدول المتقدمة..
المهم.. نجيب الموضوع من الأول.. هو إحنا بنشتغل ليه؟
وده مش سؤال عام.. المقصود هنا هو إحنا في مجتمعنا بنختار شغلنا على أي أساس؟
خد عندك يا سيدي..
جزء لا بأس بيه مننا بيختار شغله بناء على الوجاهة الاجتماعية.. اللي كانت لفترة كبيرة من الزمن، ولا زالت في بعض الشرائح تتوجه ناحية الطب والهندسة والصيدلة وما يشبههم..
جزء تاني بيختار بناء على مدى القوة والتأثير الاجتماعي للوظيفة أو المنصب، وهنا نلاقي وظائف القضاء والشرطة والجيش وغيرهم..
وجزء تالت بيختار بناء على مدى مناسبة الشغل لبعض الظروف المكانية (قربه من البيت أو الأسرة) أو النوعية (وظائف مناسبة أكتر للبنات مثلا) أو العائلية (الإكمال في نفس مهنة الأب أو الأم)، وهكذا..
وجزء رابع وخامس وسادس وعاشر بيختار الشغل اللي ما لقاش غيره..
وهنا ييجي السؤال الأصعب..
هو إحنا أصلا بنختار شغلنا؟
والإجابة للأسف وبالفم المليان.. لااااااااااااااااااااااااااااااا
إحنا اللي بيختار شغلنا هو مكتب التنسيق، اللي بيحدد مستقبلنا هو درجاتنا في الثانوية العامة، اللي بيخطط حياتنا هو مدى قدرتنا على حفظ بعض المعلومات واسترجاعها لمدة ثلاث ساعات في لجنة الامتحان..
ولو مكتب التنسيق إدانا بعض الاختيارات، يبقى ساعتها اللي هايختار برضه مش إحنا، اللي هايختار غالبًا هايكون أهلنا.. الأب اللي عاوزك دكتور قد الدنيا، أو وكيل نيابة مالي مركزه، أو محاسب تكمل المسيرة بتاعته.. والأم اللي عاوزاكي صيدلانية علشان الصيدلية بتاعتها، أو مدرسة علشان تقعدي وتتستتي في البيت، أو موظفة في الحكومة علشان غدر الزمن وحوجة الأيام..
واللي مش بيدخل في دوامة مكتب التنسيق، بيشتغل اللي ربنا بيسهل بيه..
يبقى غالبًا آخر واحد ليه (فعل) الاختيار في حكاية الشغل دي هو إنت.. مع إنك أول واحد ليه (حق) الاختيار.
طبعًا المنظومة دي فاشلة من أولها لآخرها، وبتؤدي لبلاوي كتير جدًّا.. أولها حالة السعار الرهيب للوصول إلى أعلى نقطة في جبل التنسيق علشان يبقى قدامى كل الأبواب مفتوحة.. السعار ده بيصيب الأهالي بالعته والجنون والدخول في سباق محموم نحو اللاشيء، ويصيب أبناءهم بالاكتئاب والتوتر والفصام وكل الأمراض النفسية المكتوبة في الكتب. ملامح هذا السعار أولها حمى الدروس الخصوصية، وآخرها فوضى الغش والتزوير والوسايط والرشاوى، وبينهم مدارس خاوية على عروشها..
ثانيها.. اتفضل يا سيدي.. نجحت؟ جيبت مجموع؟ دخلت الكلية؟ اتخرجت؟ اشتغلت؟ حب بقى شغلك وانجح وأبدع فيه.. ههههههههههههه.. إزاي بقى والنبي..
عندك واحد اشتغل مدرس، وكان نفسه يشتغل دكتور.. بس قدراته على الحفظ ما ساعدتهوش يبخ الكلام اللي حفظه كله في ورقة الإجابة..
وعندك واحد اشتغل دكتور، بس كان حلم حياته يطلع رسام، لأنه بيحب الرسم، بس جاب مجموع عالي وأهله استخسروه وأقنعوه يدخل طب..
وعندك واحدة اشتغلت صيدلانية علشان تكمل في صيدلية أبوها، رغم إنها كانت حابة تشتغل في مجال السياحة..
وعندك مهندس كان عاوز يبقى ظابط.. ومحاسب كان حابب يكون محامي.. ومحامي كان بيحلم يبقى وكيل نيابة.. وصحفي كان نفسه يبقى مذيع.. وغيرهم وغيرهم..
كلمني بقى عن التقدم العلمي والانفتاح البحثي واختراق القرن الواحد وعشرين..
بالنسبة لي بقى كل ده مش مشكلة.. أو بكلمات أدق.. مش مشكلة كبيرة.. المصيبة الكبيرة بالنسبة لي هي إنك –غالبًا- هاتلبس في الشغلانة دي طول عمرك.. واحتمال تصدق إنك بتحبها، رغم إنها مش بتعبر عنك.. والصعوبة الأكبر في الحكاية دي كلها هي صعوبة إنك تسيبها وتشتغل غيرها.. علشان ده بيمثل مخاطرة مادية ممكن تهددك وتهدد بيتك وأسرتك لو إنت متجوز، وإحنا لسه مافيش عندنا المسارات التعليمية البديلة اللي تدي الفرصة لأي حد يتعلم الحاجة اللي هو بيحبها وياخد فيها شهادة تخليه يشتغل بيها من غير ما يعدي على معبد الثانوية العامة ويدين بدين مكتب التنسيق.
طيب حد جه واكتشف بعد شوية من شغله إنه مش بيحبه، حتى لو كان بيحبه فعلاً قبل كده، أو إنه اختاره في ظروف نفسية أو عائلية معينة اتغيرت دلوقت، أو إنه شاف إن الشغل ده مش مناسب لطبيعة حياته وشخصيته في الوقت الحالي.. أو لقى نفسه في شغل تاني.. أو مجرد إنه حب يغير.. يعمل إيه؟!
والله العظيم ما أعرف..
لكن..
اللي أعرفه بجد إنك لما تشوف حد قرر يغير مهنته، اعرف إنك –غالبًا- قدَّام شخص عنده قدر من الشجاعة والحكمة وتحمل الحيرة وقبول الغموض ومقاومة التوهان والصبر على عدم وضوح الرؤية.. شخص قرَّر يكون حقيقي وسط زيف ممكن يكون عاش فيه سنين طويلة جدًّا.. شخص مستعد يتحمل ألم الانسلاخ من جلده القديم علشان يخرج منه بني آدم جديد تمامًا..
أنا قولت غالبًا علشان ممكن حد يغير مهنته لأسباب تانية زي اللي قولتها في الأول بالظبط (وجاهة اجتماعية أو قوة تأثير اجتماعي أو ظروف مكانية أو غيرها) وتكون ساعاتها الحسابات مختلفة شوية..
في بعض أنواع العلاج النفسي العميق بنتفق مع المريض شوية اتفاقات.. منها إنه فيه احتمال إنه أثناء أو بعد العلاج ممكن يكتشف إن كل الاختيارات اللي اختارها في حياته (شغله، زواجه، مكان معيشته، طبيعة علاقاته….) كانت اختيارات مبنية على أساسات هشة غير صحيحة نفسيًّا.. وإنه وارد جدًّا إنه بعد ما يكتشف ده يقرر يعمل تغييرات جذرية في حياته في كل النواحي دي.. لأنه ساعتها هايكون إنسان جديد، ليه رؤية مختلفة، ومن حقه اختيارات جديدة.. وده أحيانًا بيحصل فعلاً..
تغيير المهنة (الكاريير شيفت) مش دايمًا دلع وفراغ وضياع..
مش دايمًا فشل ولا تعويض فشل ولا نهايته فشل..
مش بالضرورة عدم فهم أو سوء تقدير..
ممكن يكون وراه حد بيحاول يكتشف نفسه من أول وجديد..
حد بيحاول يخرج بره الصندوق..
حد بيحاول يخرج عن النص..
حد قرر يعمل اللي بيحبه..
مهما كان التمن..
د. محمد طه