أسوأ شئ ممكن نعمله مع نفسنا هو إننا نقسمها نصين..
نعم؟
أيون..
نقسمها نصين..
وغالباً النصين دول مايعرفوش بعض..
نص حلو.. ونص وحش..
يعنى أنا فيا كذا وكذا حاجات حلوة وصفات جميلة.. وفيا كيت وكيت حاجات وحشة وصفات سيئة..
وطبعاً هذا التقسيم مالهوش أى أساس غير رؤيتك الشخصية لنفسك واستقبالك ليها، والقياس الخائب جداً على غيرك من الناس..
مين يا سيدى اللى قال ان ده حلو وده وحش؟
مين اللى افترض إن ده أحسن، وده أسوأ؟
مين اللى افترض إنك لما تكشر تبقى وحش.. ولما تضحك تبقى كويس؟
مين اللى قال إنك لما تقول (لأ) تبقى قليل الأدب.. ولما تقول (آه) تبقى حلو وزى الفل؟
مين اللى قال إن تعبيرك عن مشاعرك شئ يدعو للخجل؟
مين اللى قال إن الفشل عيب؟
والضعف حرام؟
والخطأ مرفوض؟
والتقصير مصيبة؟
ومين برضه اللى قال إن النجاح عمال على بطال زى القطر اللى مش بيقف على محطات، دى حاجة كويسة؟
ومين اللى افترض إن الشجاعة لمدة 25 ساعة فى اليوم تبقى بطولة؟
ومين اللى افترض إن الصبر 10 أيام فى الأسبوع يبقى جدعنة؟
واللا الصوت الواطى لمدة 370 يوم فى السنة يبقى أدب؟
مين ومين ومين؟ محدش.. غير حضرتك.. وبعض اللى ظلموا نفسهم وبيفكروا بنفس طريقة حضرتك..
آه.. ظلموا نفسهم.. زى مانت ظلمت نفسك..
تعالى معايا لحظة.. وهارجعك هنا تانى..
تعالى.. ماتخافش..
………………………………………………………………………………………..
تفتكر إيه أول إحساس بيحسه الطفل الصغير لما بيتولد؟
فكركده.
تصور كائن رقيق عايش فى مكان دافى لمدة 9 شهور.. بيجيله الأكل والشرب لغاية عنده.. حتى الأكسجين بيوصل رئتيه بدون أى مجهود ولا تعب.. باشا.. عايش حياة رغدة هنيئة.. وكأنه فى جنة آدم.. لكن فجأة.. تتهد الدنيا من حواليه.. ويتزلزل العالم.. وتنهمر شلالات الماية من كل ناحية.. وينطرد من جنته زى أبوه ما اتطرد منها قبل كده..
هايحس بإيه بقى؟
هايحس إحساس صعب جداً..
اسمه (الرعب)..
فقدان مفاجئ لكل الدفء والاحتواء والنعيم.. ونزول مؤلم إلى الضعف والاحتياج والفناء.. يلاقى حواليه عمالقة، وأيدين، ووشوش، وجوع، وعطش،.. هايحس بإيه غير (الرعب)..
ويحاول طفلنا المسكين خلال أول كام يوم وكام شهر من عمره إنه يفهم العالم، ويستوعب الدنيا، ويعمل معنى للأشخاص والأحداث.. ومايكونش قدامه وقتها غير طريقة بسيطة وبدائية جداً فى التفكير اسمها (الشطر) أو (التقسيم).. يعنى عند أى خبرة جديدة، أو أى شخص، أو أى موقف.. يسأل نفسه: ده حلو واللا وحش؟ حلو علشان أطمن له.. واللا وحش علشان أخاف منه؟ أسيب نفسى واللا أخد حذرى وأحتاط؟ وهكذا..
ويمارس الطريقة دى فى الاستقبال مع كل وأى حد.. لدرجة إنه فى الوقت ده بيكون عنده نسختين مختلفتين من أمه شخصياً.. نسخة الأم الكويسة اللى بيلاقيها وقت ما يحتاجها.. ترضعه وتشبعه وتنيمه.. ونسخة الأم الوحشة اللى ساعات بتكون مشغولة ومشمتاحة ومش مهتمة..
شوفوا الغلب..
مش بس كده..
ده كمان بيكون عنده نسختين من نفسه.. النسخة الحلوة المبسوطة الشبعانة الراضية.. والنسخة الوحشة المحرومة الغضبانة الناقمة..
ويقعد صاحبنا كده لمدة ست شهور كاملة.. لغاية ما يبدأ -بفعل عوامل النمو النفسي والعصبى وغيرها- يستوعب إن الأم الوحشة هى هى الأم الحلوة.. كائن واحد اسمه (الأم) ليها حالتين مختلفتين (ويمكن أكتر).. وإن هو كمان كائن واحد فيه كل حاجة.. فيه ده وفيه ده.. فيه اللى كان بيسميه (حلو- جيد).. وفيه اللى كان بيسميه (وحش- سيئ).. وإنه فى الحقيقة مافيش حلو ومافيش وحش.. لكن فيه (واحد صحيح).. أكبر وأسمى وأوسع من أى تقسيمات بدائية..
…………………………………………………………………………………………..
أدينا رجعنا..
قولتلى عندك كام شهر؟ قصدى عندك كام سنة؟
طيب.. اكتشفت إيه بقى؟
ولو ما كتشفتش يا ريت تكتشف معايا..
فيه احتمال كبير إن اللى انت بتسميه (وحش/سيئ) فى نفسك يكون فى الحقيقة هو أفضل ما فيك.. والعكس بالعكس..
فيه احتمال إن اللى انت شايفه ومسميه (حلو/جيد) فى غيرك يكون عندهم أسوأ ما فيهم..وبرضه العكس بالعكس..
فيه احتمال إنك تكون مقسم نفسك مليون حتة.. ومش قابل ولا راضى عن ولا واحدة فيهم..
ماهى خطورة موضوع التقسيم ده من أصله إنك بتقبل اللى انت بتسميه (كويس)، وترفض اللى انت بتسميه (مش كويس).. يعنى تقبل حتة من نفسك.. وترفض حتة تانية.. وتقعد تتخانق مع نفسك طول عمرك.. وتكون زى اللى طالعله (خراج) فى ايده.. بدل ما يصدق ويستوعب ويقبل إنه موجود علشان يعرف يعالجه ويغيره.. لا.. ده يقرر إنه يقطع إيده.. كده بكل بساطة..
وكل يوم تقطع حتة من نفسك.. وكل ليلة تستغنى عن جزء منك.. لغاية ما (بعضك) ينسى (بعضك).. و(بعضك) يكره (بعضك).. و(بعضك) يقسى على (بعضك)..
ياااااه.. صعب أوى..
أقولك الأصعب؟
إنك تعمل ده كمان مع الناس.. وتقسمهم هما كمان نصين.. ده ملاك مش بيغلط.. وده شيطان مش بيحس.. بس دى قصة كبيرة مش هانتكلم فيها دلوقت.. خلينا فيك إنت الأول..
……………………………………………………………………………………
إيه المطلوب بقى؟
مش مطلوب أى حاجة..
غير إنك تبطل تقسم نفسك نصين.. وتشوف نفسك (واحد صحيح) فيه كل حاجة.. وتستحمل اللى هاتشوفه.. وتقبله.. ماتنكرهوش ولا تخاف أو تهرب منه.. يمكن تكتشف عن نفسه حاجة جديدة.. يمكن تكمل اللى ناقص منها.. بيها.. يمكن تلحم الطيبة بشوية دهاء.. يمكن تضيف للتهذيب شوية جرأة.. يمكن تخلط مع الخجل شوية إقدام..
يمكن تكتشف إن المثالية الحقيقية بتبدأ من قبول الأجزاء اللى انت مش قابلها فى نفسك، وجمع الأجزاء دى فى كل واحد متكامل.. وإن الجمال الحقيقى هو شوية من الأبيض على شوية من الأسود، بينهم كل ألوان الطيف.. شوية من الوهج على شوية من الضلمة.. بينهم كل درجات النور.. وإن الكمال الحقيقى هو التحام (فجورها).. ب(تقواها).. وتكاملهم.. والتئامهم.. فى اتجاه (الواحد).. (الأحد).. اللى هو (الرحمن الرحيم).. واللى هو برضه (المنتقم الجبار).. اللى هو (غافر الذنب وقابل التوب).. واللى هو (برضه شديد العقاب).. وكل ده مش عكس بعضه..
ياللا بقى..
ابدأ الرحلة دى..رحلة التكامل..والالتحام ..والالتئام..
علشان تبقى (واحد صحيح)..
د. محمد طه