كل واحد فينا عايش في عالمين متوازيين.. عالم خارجي وعالم داخلي..
العالم الخارجي هو العالم اللي انت واعي بيه.. بتشوف وبتسمع وبتحس.. ناس وأصوات وأحداث وأماكن وأزمنة..
العالم الداخلي بقى ده حكايته حكاية..
تصوّر إن جوّاك نسخة من كل حد انت على علاقة بيه في حياتك.. نسخة حيّة ليها صوت وصورة..وبينك وبينها مشاعر حب أو كُره أو غضب أو امتنان أو…. إلخ.. كل حد مُهم بتقابله في مشوار عمرك بتخزن منه نسخة جواك، ومعاها كل مشاعرك ناحيته (وقت تخزين هذه النسخة).. يعني حضرتك جواك نسخة من والدك.. نسخة حيّة رباعيّة وربما خماسيّة الأبعاد.. بتتكلم معاها وترد عليك وتتخانق وتتصالح وتتفاعل تفاعلات إنسانية كاملة، سواء في وعيك الظاهر (وانت واخد بالك يعني) أو في مستوى الوعي الباطن اللي انت مش حاسس بيه ولا تعرف عنه أي حاجة.. أبسط صورة لهذه التفاعلات بتحصل لما والدك يغيب عنك ويوحشك.. تيجي حضرتك بكل بساطة تستدعي وتستحضر نسخته/ صورته جواك علشان تفتكره وتتونس بيه وتدعيله.. أو لما تعمل أي حاجة غلط، تُبص تلاقي حاجة كده طلعت من جواك تقولك (لأ) ده غلط أو ده عيب أو ده حرام..
جواك نسخة حيّة من والدتك.. متخزنة من أول أيام عمرك.. ومعاها مشاعر الحب والرضا نتيجة حنانها واهتمامها بيك، أو الكُره والغضب نتيجة قسوتها أو إهمالها معاك..
جُواك نُسخ من إخواتك.. من أصحابك.. من مُدرسيك في ابتدائي.. من زمايلك وأصدقائك.. من زوجتك وأولادك.. من جيرانك.. من كل حد انت على علاقة بيه في حياتك.. جوّاك نُسخ من الأماكن المُهمة بالنسبة لك بكل تفاصيلها من جدران وأبواب وشبابيك ومقاعد وحتى رائحة الهواء فيها.. وكل نُسخة مرتبطة معاها بمشاعر مُعينة تخُص صاحب هذه النسخة وقت تكوينها وإدخالها في عالمك الداخلي..
النُّسخ دي المفروض إن حضرتك تعملها Update (أب – ديت) كل شوية.. يعني لما الشخص اللي قدامك يتغير أو علاقتك بيه تتغير سواء للأحسن أو للأسوأ، تِضَاهي ده بالنُّسخة القديمة وتحدثها.. علشان ما تظلمش حد في صورة قديمة انت واخدها عنه ومثبّته فيها.. وعلشان تسمح لنفسك تجدد دماء عالمك الداخلي كل فترة وأخرى.. حتى نسختك الداخلية عن نفسك محتاجة تتجدد وتتغير بتغيرك وحركتك النفسيّة بمختلف إيقاعاتها..
تصوّر بقى حد قابل في حياته – خاصة في سنينها الأولى- ناس عاملوه بقسوة أو بإهمال أو بحب مشروط أو بعدم قبول أوعدم احترام أو إهانة (أو على الأقل هو شافهم واستقبلهم كده).. تفتكر هايخزن للناس دُول نُسخ شكلها إيه في عالمه الداخلي.. وحوش طبعًا.. ده كلام بجد.. هايكون جوه عالمه الداخلي وحوش.. أصل العالم الداخلي ده لغته هي الصور.. والمشاهد الخياليّة.. والأحداث الدرامية.. يعني هايكون جوّاه غابة.. مدينة أشباح.. غِيلان وديناصورات وثعابين وكائنات سوداء مجنّحة ومصاصين دماء.. هايكون جواه خناقات ومطاردات وحروب وأصوات قنابل وصراخ وعويل.. وتكون أحلامه عبارة عن حلقات يومية من مسلسل رُعب مُستمر..
اللي عالمه الداخلي بالشكل ده هو مريض نفسي من الدرجة الأولى.. يطلع عنده اكتئاب.. يطلع عنده توتر.. يطلع عنده اضطراب في الشخصيّة.. أو تقوم أخيرًا غِيلانه وعمالقته الداخليّة بتحطيم واختراق الحاجز الهش اللي بين العالم الداخلى والعالم الخارجي وتغزوه، ويبدأ يشوفها ويسمعها ويحسها في هلاوس بصريّة وسمعيّة وحسيّة.
طيب تصوّر العكس.. حد شاف من اللي حواليه.. بداية من اللي ربوه كل حب وحنان وتفهُّم واحترام وقبول غير مشروط واستيعاب وسماح.. طبعًا هايكون عالمه الداخلي جنّة خضراء مليانة ناس طيبين وورود وفُل وياسمين وبُحيرات وشمس ونور ودفا.. وأحلامه هاتكون بالطبع جُرعات هادئة من السعادة والشبع والرضا..
اللي عالمه الداخلي بالشكل ده هم أصح الأصحاء..
طيب ولو حد طبيعي زينا يعني، شاف ده وشاف ده.. واتعامل مع ده واتعامل مع ده.. ساعتها هايكون عالمه الداخلي مزيج من الأول والثاني.. لكن حد منهم هايكون ليه الغَلَبة والسيطرة.. ويكون على نقطة في خط بياني طويل أوله مُنتهى المرض النفسي، وآخره مُنتهى الصحة النفسيّة..
طبعًا طبيعة العالم الداخلي بتاع كل واحد فينا بتحدد (وده في منتهى الخطورة) طريقة استقباله للناس والأحداث والأمور.. يعني لو واحد عدى من جنبك وما قالاكش صباح الخير، عالمك الداخلي هو اللي هايحدد إذا كنت هاتستقبله على إنه بيكرهك أو مطنشك أو حتّى بيتآمر عليك.. أو تستقبله على إنه مش واخد باله أو مشغول أو تعبان شوية..
طيب.. باختصار.. وبدون أي إحراج.. محدش فينا عالمه الداخلي سليم مية في المية.. محدش فينا ما خدش لقطة لوالده وهو بيعنفه أو يزعله وخزن اللقطة دي جواه في صورة عِملاق مُخيف، محدش فينا ما خدش لقطة لوالدته وهي بتشد ودانه أو بتخوفه وخزن اللقطة دي جواه في صورة أُمنا الغُولة. محدش فينا مش مخزن صورة أُستاذ اللغة العربية بنبرة صوته العالية القاسية في صورة وحش كاسر.. زي بالظبط ما كلنا مخزنين صور حية للأب الحاني والأم العطوف والصاحب الوفي والحبيبة الرائعة..
صور.. نُسخ.. حياة كاملة.. عالم داخلي موازي.. تجري أحداثه على قدم وساق.. دلوقت.. حتى وانت بتقرا الكلام ده..
إيه بقى؟
نحل إزاي طيب؟ نصلّح إزاي الأجزاء المعطُوبة في عالمنا الداخلي؟ إزاي نستبدل الوحوش الكاسرة بوجوه ملائِكية مُريحة؟ إزاي نحوش الأصوات والصور القبيحة المُرعبة ونخلي مكانها موسيقى متناغمة وزقزقة عصافير وخرير مياه مُتدفقة.. وورود وشمس وبحر ودفا..
أقولك يا سيدي..
هو مش اللي عمل ده كله علاقة.. أو مجموعة علاقات.. مع ناس وصلنا منهم رسائل نفسية سيئة.. وقُمنا بتخزينهم برسائلهم ومشاعرنا ناحيتهم في أبشع الصور والأحداث.. الإجابة آه.. إذن مش هايصلح ده غير علاقات أخرى يوصلنا منها رسائل نفسية مختلفة طيبة من قبول وحب واحترام..
علاقات دي كلمة كبيرة؟ أجيب منين أنا علاقات تصلح ده كله..
شوف.. مُمكن علاقة واحدة تصلّح كل عالمك الداخلي.. أيوه.. علاقة واحدة بس.. علاقة واحدة بس..
يعني علاقة حقيقية مع واحد صاحبك.. يوصلك منه فيها حب غير مشروط وقبول واحترام وسماح وتفهم واستيعاب.. مُمكن تغيّر كل عالمك الداخلي..
علاقة حقيقية مع أستاذك.. يوصلّك منه فيها تقدير وقُرب واهتمام.. مُمكن تعيد تركيبك النفسي تمامًا..
علاقة حقيقية مع حبيب أو حبيبة.. تكون مليانة صدق وإخلاص ومودة ورحمة ودفا وبراح واحتواء.. كفيلة بأنها تخليك تتصالح مع كائناتك الداخلية المُرعبة، وتشوفهم في حجمهم الطبيعي البسيط، ويمكن تكتشف غُلبهم وضعفهم واحتياجهم..
علاقة إنسانيّة طيبة.. يصلك من خلالها حب حقيقي (بكل مُسمياته ومحتوياته ومكوناته) غير مشروط.. تستطيع أن تحوّل جحيمك الداخلي إلى جنة عدن..
وهي دي فكرة العلاج النفسي..
العلاج النفسي هو محاولة مُستحدثة (عمرها بضع عشرات من السنين) لمُضَاهاة ما تفعله العلاقات الإنسانية الطيبة.. وبغض النظر عن نوع العلاج النفسي.. أو نظرياته.. أو تقنياته.. أو مُدته.. فكل طُرق وأساليب ومدارس العلاج النفسي تشترك وتجتمع في أن ما يغير المريض ويعالجه ويحوّل مرضه واكتئابه وتوتره وهلاوسه إلى شفاء وبهجة وعمل وإبداع هو ما يسمّى (بالعلاقة العلاجية).. اللي مش بتوصّل أى حاجة غير حب واهتمام واحترام وتفهّم وسماح واحتواء وقبول..
المُعالِج النفسي.. أو الصاحب المُخلص.. أو الأستاذ الحقيقي.. أو الحبيب الرائع.. أو النبي المُرسل.. أو حتى صاحب إحدى العلاقات القديمة في نُسخة جديدة.. بيكون زي الفارس الهُمام.. يدخل عالمك الداخلي بكل جسارة وشجاعة.. يحارب.. يكر.. يفر.. يغلب.. يتفاوض.. يداعب.. وأخيرًا يصالح.. آه يصالح.. يصالحك على نفسك.. ويصالحك على مكونات عالمك الداخلي اللي هي جزء منك.. يصالحك على غيرك.. يصالحك على اللي حواليك.. يصالحك على الدنيا.. يصالحك على الحياة.. ويصالحك على ربنا.. فتتغيّر.. تتغيّر شخصيتك.. تبقى بني آدم تاني.. مليان أمل.. وحب.. وحياة..
إذن..
عالمك الداخلي حقيقي أكتر من الحقيقة نفسها.. وبيؤثر في كل أفكارك ومشاعرك وتصرفاتك وردود أفعالك..
عالمك الداخلي مكوّن من مجموعة من العلاقات والمشاعر المُخزّنة في صور دراميّة هائلة التركيب وشديدة التعقيد..
عالمك الداخلي بيظهر في أحلامك وفي طريقة مشيتك وفي علاقتك بنفسك وجسمك والنّاس وحتى علاقتك بربنا..
عالمك الداخلى مهما كان مشوّه.. مهما كان مليان بالوحوش والأشباح ومصاصين الدماء.. مُمكن علاقة واحدة حقيقية فيها قُبول وحب واهتمام واحترام، تغيّره، وتلوّنه، وتشفيه، وتُعيد تكوينه من أول وجديد..
مُمكن تقوم تدوّر على العلاقة دي دلوقت؟ مُمكن تكتشفها أو تعيد اكتشافها في حياتك؟ مُمكن تسمح بيها؟ مُمكن تحافظ عليها؟
الحب يشفي..
الحب يطيب الخواطر..
الحب يصنع الأنبياء..
“وألقيتُ عليكَ محبةً منى.. ولتُصنع على عيني” – طه (39)
صدق الله العظيم.
د. محمد طه