المشهد الأول: في عيادة الطبيب النفسي

  • انت ليه دايمًا زهقان ومتضايق مني يا دكتور؟
  • إيه ده؟ مين اللي قال كده. بالعكس. أنا مرحب جدًا.. ده شغلي..
  • بس انت مش بترد على تليفوناتى، ومش بترضى تديني ولا دقيقة واحدة زيادة بعد انتهاء مدة الجلسة..
  • آه علشان دى قواعد العلاج..
  • وكل ما تشوفني تعبيرات وشك بتتغير، وتكشر، وزي ما تكون شايل هم تقيل..

بدأ الدكتور يهز رجله، ويتأفف..

  • شايف يا دكتور.. أديك بدأت تتوتر..

ينظر الدكتور في ساعته، وعليه علامات الضيق والزهق..

  • تلاقيك بتقول من جواك دلوقت إمتى الجلسة تخلص!

    تنتهي الجلسة بالفعل، وعلى موعد الجلسة التالية يكون الدكتور مشغول شوية فيؤخر موعد الجلسة ساعة، وبعدها بجلستين يقرر تحويل المريضة لدكتور زميله علشان يتابعها..

المشهد الثانى: رُدهة منزل زوجين حديثي الزواج..

  • إنت ليه متأخر كده النهاردة.. كنت فين؟
  • مدير الشركة كلفني بحاجة كان لازم تخلص النهاردة.
  • وإيه ريحة البارفان الغريبة دي؟
  • غريبة إزاي.. ده البارفان اللي إنتي جايباهولي من أسبوع!!

يذهب الزوج ليأخد حمامه المُعتاد وعليه كل علامات الدهشة والضيق، وتبدأ الزوجة كعادتها في استكشاف تليفونه المحمول.

بعد ثلاث سنوات، يضعف الزوج أمام سكرتيرة الشركة التي تراوده عن نفسه مُنذ أكثر من خمس سنوات قبل زواجه، والتي كان يُقاومها بكل طريقة حفاظًا على بيته وأسرته..

 

المشهد الثالث: مشهد خارجى أثناء تمثيل أحد المسلسلات..

  • المُمثلة الشّابة للمُخرج: حضرتك عاوزني أستخدم كل تعبيرات وشي وجسمي وأعبر عن غضب شديد جدًّا.. مش كده؟ بس أنا دلوقت معنديش أي غضب جوايا ناحية أي حد!!
  • المخرج: طيب أنا هاساعدك..

يجلس المخرج أمامها ويطلب منها النظر المباشر في عينيه.. ويستحضر في ذهنه أحد مشاهد حياته التي يشعر كلما يتذكرها بغضب شديد.. تظهر عليه بالفعل علامات الغضب، حيث يقتضب حاجباه، وتنتفخ أوداجه ويتطاير الشّرر من عينيه..

  • المُمثلة الشّابة: أنا فعلًا دلوقت حاسّة إني متضايقة وبدأت أغضب..

تقوم الممثلة لتأدية المشهد.. وتندهش من كمية وشكل الغضب الذي تُعبر عنه.. لدرجة أنها صفعت زميلها في التمثيل صفعة قوية جدًّا نتج عنها جرح واضح أسفل شفتيه..

يتنهي يوم التصوير.. وتذهب المُمثلة الشّابة إلى منزلها.. ليندهش جميع من بالمنزل من أسلوبها الحنِق في الكلام وعصبيتها المُفاجئة وارتفاع صوتها غير المُبرر!!

كام مرّة حسيت إنك مستغرب مشاعرك؟

كام مرّة سألت نفسك السؤال ده: هو أنا حاسس كده ليه مع إن مافيش حاجة حصلت تستدعي الإحساس ده؟

كام مرّة ظبطت نفسك وانت متألم بدون سبب يدعو للألم.. غضبان بدون سبب يدعو للغضب.. كاره بدون مُبرر للكُره.. أو حتى بتحب بدون مبرر للحب..؟

كتير جدًّا من مشاعرنا هي في الحقيقة مش مشاعرنا.. هي مشاعر اتزرعت فينا.. حد تاني رماها من جواه عليك.. يعني أصلها مش بتاعتك.. بتاعة حد تاني غيرك..

يااااااااااااااه معقول! أيوه معقول..

ساعات يكون فيه حد جواه مشاعر زهق وهو مش قابلها أو مش مستحملها أو بينكرها ومش حاسس بيها أصلًا.. تقعد سيادتك قدامه دقيقتين.. يقولك بص انت زهقان.. شوف إنت متضايق.. أديك مش مستحمل.. أو حتى من غير ما يتكلم أصلًا.. تلاقي نفسك زهقت.. وقرفت.. ومش طايق نفسك..

ساعات حد يكون مليان من جواه خيانة وكدب وخداع.. ويبدأ يرمي ده عليك ويحسسك إنك دايمًا مشكوك فيك ودايمًا موضع اتّهام.. لغاية ما حضرتك تبدأ تعمل ده فعلًا..

وساعات حد يكون مليان غضب، بس مش بيعبر عنه، أو حب ومش بيعبر عنه، أو حتى كره ومش بيعبر عنه.. وبنفس طريقة الضغط والإقناع دي يوصلك إنت إنك تعبر عن اللي جواه هوه.. ولا انت واخد بالك.. ولا هوه كان واخد باله..

انت عارف كام مرّة وقعت في الفخ ده؟ انتي عارفة كام مرّة حسيتي أحاسيس مزروعة فيكي ومش بتاعتك؟

الحكاية دي اسمها العلمي Projective Identification، أو التقمص الإسقاطي.. يعني حد يسقط (يرمي) جواك حاجة بتاعته هو، وانت بكل بساطة ودون وعي تستقبلها وتاخدها وتتقمصها وتبقى بتاعتك.. وطبعًا فيه تفسيرات علمية كتير للظاهرة دي..

الموضوع ده بيحصل على مستوى الأفراد.. يعني واحد يزرع مشاعره اللي مش عارف يقبلها في نفسه أو يحتويها، جوّه واحد تاني.. فالتاني يلاقي نفسه بيحب ويكره ويزهق ويغضب ويخون ويزوّر……. بدون مُبرر وبشكل غير طبيعي. وبُصوا للي بيحصل بين الأصدقاء وبين الأزواج ومن موظفي الحكومة اللي عندهم القُدرة على تحويلك في ثوان من إنسان شريف عفيف محترم إلى حد بيزوغ ويرشي ويخلص حاله..

وبيحصل كمان على مستوى المجموعات أو العائلات.. يعني مجموعة (أو عائلة) تزرع مشاعر مُعينة جوّه واحد أو جوّه مجموعة أخرى.. مجموعة تزرع جوّه واحد إنه فاشل.. إنه سيئ.. إنه مايستاهلش (مع إن ده يخص المجموعة نفسها مش الواحد ده أبدًا).. وهو يصدق وممكن يعيش حياته كلها بهذا الإحساس.. ومجموعة أخرى تزرع جوّه واحد إنه أحسن واحد في الدنيا، وما فيش زيه.. لغاية ما يصدق ويعيش بهذا التصديق ويمارسه عليهم هم نفسهم..

وبيحصل على مستوى المجتمعات والثقافات والدول.. من أول المجتمع اللي يُوصم حد بالخيانة والعمالة لغاية ما يخليه خاين وعميل فعلًا.. لغاية ما دولة زي أمريكا تصف دولة أخرى بالإرهاب لغاية ما تخليها إرهابية فعلاً، مع إن أمريكا هي أصْل الإرهاب ومصدّرته لكل دول العالم.

أخطر ما في هذا الموضوع إنه مُمكن يحوّل بني آدم إلى بني آدم آخر مختلف تمامًًا..

والأخطر إنك دايمًًا مسئول ومالكش عُذر ولا حجّة.. إنت اللي سمحت إن حد يلبّسك الدور، وانت لبسته.. وانت اللي وافقت إنك تكون جزء من سيناريو بتاع حد تاني مش بتاعك.. وانت اللي فتحت حدودك علشان حد غيرك يدخلها ويزرع جواها حاجة مش تبعك..

طبعًا اللي بيلعب اللعبة دي بيبقى جوّاه هدف وعاوز يوصل لنتيجة ولو بغير وعي أو عن غير قصد واضح.. يعني لما حد يطلع الغضب من كل اللي بيتعاملوا معاه يبقى عاوز يثبت لنفسه إن كل الناس مش بتستحمله.. واللي بيحرك الكُره في اللي حواليه بيبقى عاوز يثبت لنفسه إنه مرفوض وما يستاهلش يتحب، وإنه مظلوم وضحية.. واللي بيفخم في غيره ويقدسه ويؤلهه بيكون عاوز يفضل صغير واعتمادي وغير مسئول.. باختصار.. دي لعبة قديمة ومستهلكة وعقيمة مالهاش هدف غير الهروب من المسؤولية وتثبيت فكرة خاطئة ومشاعر بالية وتكرارها مرّة ومرّة ومرّات..

طيب وبعدين..

جّوه كل حد فينا فلتر.. أيوه فلتر.. بس يمكن انت مش واخد بالك من وجوده لأنك ما استخدمتهوش قبل كده.. مطلوب منك كل يوم إنك تستخدمه، وبعد شويه هاتتعلم تستخدمه كل ساعة وكل دقيقة.. وكل ثانية..

أول ما تلاقي فيه مشاعر جواك غريبة عليك وعلى فطرتك وطبيعتك.. على طول استرجع إيه اللي حصل قبلها.. قابلت مين؟ اتصلت بمين؟ شوفت إيه في التليفزيون أو السينما أو الشارع أو الشغل؟ اتعاملت مع مين.. فين.. ليه.. إزاي؟ وابدأ استخدم الفلتر.. ونقي نفسك من شوائب الآخرين اللي اتخلصوا منها عندك.. وارمي لكل حد حاجته اللي رماها جواك.. علشان تعرف تبدأ دورة جديدة من تنقية نفسك.. كل يوم..

دورة جديدة .. من تنقية نفسك.. كل يوم..

د. محمد طه