(1)
ماليفيسينت.. كائنة/جنية جميلة ورقيقة، اتولدت في ممّلكة ساحرة مليانة ثقة وحب وجمال بين كائنات عجيبة وغريبة زيها.. ماليفيسينت ليها جناحين.. بتطير بيهم في براح الدنيا، وتتمتع بجمالها.. وتحمي بيهم نفسها وأهلها.. ماليفيسينت بريئة.. طيبة.. تلقائية..
وقعت في حُب صبي صغير.. وصدقت إن ده هو الحب الحقيقي مع أول هدية (قُبلة) أهداها ليها لما كان سنها 16 سنة.. بس لأنه من البشر.. فالطمع والجشع أغواه بأنه يقص جناحاتها ويهديهم للملك علشان يتجوز بنته.. ويورث عرشه.
ماليفيسينت.. بعد ما اتكسرت.. اتشوهت.. واتغيرت.. مضطرة..
ملاها الغضب.. والكُره.. والحقد.. والغِل.. والرغبة الشديدة في الانتقام.. من كل جنس البشر.. المُمَّثل الآن في الملك الجديد وزوجته وبنته المولودة الجديدة (أرورا)..
ماليفيسينت أصابت المولودة الصغيرة الجميلة بلعنة يتم تفعيلها عند بلوغها سن 16 سنة (نفس سنها لما صدقت وجود حب حقيقي).. اللعنة دي هاتخليها تنام في غيبوبة ما تصحاش منها إلا مع قُبلة من حد بيحبها (حب حقيقي)..
وتشاء الأقدار إن البنت الصغيرة (أرورا) تنشأ وتكبر في مملكة وتحت سمع وبصر (ماليفيسنت).. اللي كل يوم بيزيد كرهها للبنت أكتر.. وتتمنى ليها الموت في كل لحظة.. ومستنية تحقيق النبوءة بفارغ الصبر..
لكن.. براءة (أرورا) وجمالها وبساطتها تبدأ تحرّك/تصحي في (ماليفيسينت) مشاعر جديدة: تعاطف.. قبول.. اهتمام.. يتطور إلى حُب.. لغاية ما تقرر (ماليفيسينت) إبطال مفعول اللعنة قبل موعدها بيوم واحد.. لكنها- بكل أسف- تفشل.. وتدخل (أرورا) في غيبوبة تامّة وسُبات عميق في يوم عيد ميلادها السادس عشر.
يتسمّر جميع المشاهدين أمام مشهد الفتى اللي (أرورا) قابلته قبل الغيبوبة بأيام وكان مهتم بيها وبدأ يحبها.. وهو بيقرب من سريرها، بعد ما قادته ليه (ماليفيسينت) في محاولة أخيرة لإنقاذ البنت بقُبلة (حُب حقيقي).. لكن المفاجأة.. إنها ما صحيتش من الغيبوبة.. علشان تؤكد لـ (ماليفيسينت) وللولد وللمشاهدين نفس الرسالة اللي وصلتها في نفس السن: ما فيش حاجة اسمها (حُب حقيقي).
(ماليفيسينت) تتألم.. وتبكي.. وتعد (أرورا) بأن تحافظ عليها للبقية الباقية من حياتها.. وتودعها بقُبلة بسيطة على جبينها.. وبمجرد ما تلتفت عنها.. تصحى (أرورا) من الغيبوبة في مشهد بالغ الجمال.. علشان نكتشف إن دي كانت قُبلة (الحب الحقيقي) اللي أنقذتها وأعادتها للحياة..
قُبلة (الحُب الحقيقي) مش بس أعادت (أرورا) للحياة.. لا.. دي كمان ساعدت (أرورا) إنها ترجع لـ(ماليفيسينت) جناحاتها المسروقة.. وحياتها المفقودة.. علشان تسامح نفسها.. وتبدأ من جديد.. وتعيش لنفسها وأهلها ومملكتها..
(2)
قصة (ماليفيسينت) هي قصة أي مريض نفسي (وقصة ناس طبيعيين كتير).. طفل صغير برئ وجميل وله جناحان.. بيطير بيهم ويحلق في أحلامه.. بيحب أهله.. وبيته.. وشايف فيهم كل جمال الدنيا..
وزى ما بيحصل كتير.. يقوم الآباء والأمهات المبجلون بقصقصة جناحات طفلهم.. فيوقفوا تلقائيته.. ويمنعوا طيرانه: اسمع الكلام علشان أحبك.. اشرب اللبن علشان ربنا يحبك.. ما تعليش صوتك علشان تدخل الجنة.. ما تقولش (لأ) علشان عيب.. وكتير أوى من اللى احنا عارفينه.. واللى بيتعمل تحت ادّعاء (علشان مصلحتك) و(احنا نعرف أكتر منك).. لكن اللي وراه في الحقيقة هو مشروعهم الخاص المُتمثّل في طفلهم البرئ، وأحلامهم الشخصية اللي عاوزين يحققوها من خلاله، في طريق هما اللي راسمينه، وبطريقة هما بس اللي يحددوها.. ويسموا ده (حُب حقيقي)..
وبعد ما يكتشف الطفل المسكين خدعة (الحب الحقيقي) يكون المشروع الوحيد على أرض الواقع.. هو مشروع مريض نفسي.. مكسور.. ومشوّه.. مُضطرًّا..
ويملاه (زي ما ملا ماليفيسينت) كُره شديد لنفسه وللعالم.. وسواد ما لهوش حدود، ورغبة عارمة في الانتقام من الجنس البشري بأكمله.. انتقام خارجي في صورة عنف مثلًا، أو انتقام موّجه لذاته في صورة مرض نفسي.. ويجيلنا باكتئاب.. أو توتر.. أو اضطراب في الشخصية.. أو- لما يوصل الانتقام بيه إلى أقصاه- يطلع لسانه للعالم.. ويتجنن..
وزي كتير من المرضى النفسيين.. بيعمل حاجة اسمها (التكرار القهري).. يعني بيدفع نفسه لتكرار التجربة المُؤلمة اللي عدى بيها في حياته مرّة واتنين وتلاتة وعشرة، بنفس تفاصيلها، مع أشخاص تانيين، ويوصل في الآخر لنفس النهاية.. علشان حاجة من اتنين (على الأقل): الحاجة الأولى إنه يثبت لنفسه وللناس وللدنيا كلها إنه كان على حق.. وإنه مظلوم.. وإنه ضحية.. وإن (زي ما قالت ماليفيسينت) ما فيش حاجة اسمها صدق ولا ثقة ولا حُب حقيقي.. فيفضل زي ما هو.. والحاجة التانية إنه يدي نفسه فرصة تانية، ويدور على حل مُختلف.. ويلاقي إجابة شافية.. ويكتشف عكس فروضه المرضية اللي عاش بيها طول حياته.. ويصدّق إن لسه فيه صدق.. وفيه ثقة.. وفيه حُب حقيقي.. فيتغير.. ويخف..
وده بالظبط اللي عملته (ماليفيسينت)..
(ماليفيسينت) شافت نفسها في (أرورا).. وكأنها الجزء اللي ما زال برئ ونابض بالحياة منها (علشان كده ماليفيسينت كانت طول الفيلم لابسة إسود ومكياجها غامق دلالة على الجانب المُظلم المريض من شخصيتها، وأرورا شقراء باهرة الجمال والألوان، دلالة على الجانب الفطري السليم والجميل) وبدل ما تكرر (ماليفيسينت) التجربة المؤلمة بنفسها قررت تخلي (أرورا) تلعب الدور ده مكانها.. بمنتهى القسوة، وبرود القلب، وقليل من الأمل الباهت.. والأمنيات الخافتة.. إنها تنجح.. وتعدي الاختبار الصعب..
وعند لحظة الحل المتوقع.. والقُبلة الساحرة الشافية من الحبيب اللي الناس كلها اتخدعت فيه برضه.. تيجي عبقرية الفيلم، وعبقرية ماليفيسينت، وعبقرية العلاج النفسي..
(3)
عارف المريض النفسي بيخف إزاي؟ عارف البني آدم بيتغير إزاي؟ عارف إيه كلمة السر في النُّضج والنمو النفسي تبعًا لكل مدارس علم النفس والعلاج النفسي؟
الشوفان.. والألم.. والقبول..
البني آدم بيبقى شايف نفسه والآخرين والعالم بعين واحدة.. ومصدق اللي هو شايفه وبس.. ومش مُستعد يغيره: أنا مظلوم.. أنا ضحية.. أنا مُضطّر.. أنا غير مسئول.. هما سيئين.. الدنيا وحشة.. وبيعمل كل حاجة يثبت بيها ده، علشان يؤكد لنفسه نفس الرسالة القديمة.. فيفضل زي ما هو.. ويكرر نفس الدور.. على مسارح مختلفة.. وبممثلين جداد كل مرة..
تبدأ لحظة التغيير الحقيقية بإنك تشوف الجانب الآخر من نفسك.. الجانب المظلم.. اللي ما كنتش بتسمح لنفسك قبل كده إنك تشوفه.. وحتى لو شوفته.. كنت بتلتمس لنفسك الأعذار والمبررات والحيل الدفاعية النفسية.. هاتكتشف وقتها إنك زي ما اتظلمت زمان، بتظلم نفسك وغيرك دلوقت.. وزي ما كنت ضحية زمان.. فإنت جاني دلوقت.. وزي ما كنت مُضطّر زمان.. فإنت مختار دلوقت.. وزي ما كنت مش مسئول عن اللي حصل زمان.. فإنت مسئول عن استمراره وتكراره بشكل أو بآخر دلوقت..
الشوفان ده مُؤلم.. لأنك بتشوف حاجة جديدة وغريبة ما كنتش متوقعها قبل كده.. والرؤية دي قاسية.. لأنها مليانة متناقضات.. تحملها عايز مجهود نفسي شاق.. واستيعابها في منتهى الصعوبة.. ناس كتير أوي بتقف عند المرحلة دي.. ومتقدرش تكمل.. تشوف وتتألم وبس.. لكن مش بيبقى قدامك علشان تكمل وتبدأ تتغير غير خطوة واحدة بس.. خطوة مهمة وأساسية.. اسمها القبول.. آه القبول..
تقبل نفسك كلها على بعضها.. بكل ما فيها.. الوحش قبل الحلو.. الضلمة قبل النور.. الشر قبل الخير.. الفُجور قبل التقوى (نفس ترتيب الآية القرآنية).. القديم والجديد.. الغلط والصح.. تقبل الضعف والخطأ والفشل.. تقبل إنك بني آدم.. والقبول هنا مش معناه الموافقة.. ولا معناه الاستسلام للي انت فيه.. بالعكس.. القبول هنا هو الدرجة الأولى في سلم التغيير..
شوفت؟ اتألمت للمتناقضات اللي شوفتها في نفسك وفي الآخرين؟ قبلت نفسك (والآخرين) كلها على بعضها؟ تبدأ دلوقت عملية الالتحام والالتئام التلقائية بين أجزاء نفسك المُتنافرة.. وقطع روحك المُتباعدة.. وكسور خاطرك المُبعثرة.. زي بالظبط جرح العملية.. الدكتور(المعالج/ الحياة/ التجربة/ الرؤية) بيفتح.. وينضف.. ويقرب حافتي الجرح من بعض بالخيط.. ويتم بعدها التئام الجرح بصورة تلقائية ذاتية ما فيش دخل فيها لأي حد.. غير جسمك.. ونفسك.. وروحك..
(4)
(ماليفيسنت) اتظلمت.. واتشوهت.. واتغيرت للأسوأ مُضطّرة.. وعاشت الكُره والانتقام.. لكنها في اللحظة الفارقة من الفيلم ومن حياتها قدرت تشوف الجانب المُظلم منها.. وتشوف إنها ظلمت نفسها وظلمت اللي حواليها.. وإنها زي ما كانت مظلومة وضحية ومُضطّرة وغير مسئولة، فهي دلوقت ظالمة وجانية ومختارة ومسئولة..
(ماليفيسينت) حاولت تموِّت الجزء الباقي الجميل منها (اللي كانت أرورا رمز ليه).. لكن كان عندها الشجاعة إنها تشوف الجزء ده وتحاول تنقذه..
(ماليفيسينت) شافت التناقض في نفسها.. وفي (أرورا).. وفي الآخرين.. وفي العالم.. واتألمت ألم شديد جدًّا لهذا الشوفان وهذه الرؤية، في واحد من أبرع مشاهد الفيلم الأخيرة..
(ماليفيسينت) قبلت التناقض اللي شافته.. وشافت مسئوليتها عن كل اللي حصل في حياتها واللي هي عملته في نفسها وفي الآخرين.. وقررت تتغير.. وتحمي (أرورا/نفسها) وتحافظ عليها ما تبقى لها من عمر..
(ماليفيسينت) شافت.. واتألمت.. وقبلت.. علشان كده بدأت عملية الالتئام الذاتية التلقائية .. واتحول كل ده جواها.. إلى.. حُب حقيقي.. حب له القدرة على التغيير.. والشفاء..
(ماليفسينت) هي كل حد جوّاه جانب مُظلم وجانب مُبهر.. بعاد عن بعض.. ومحتاجين يتلملموا.. ويلتأموا.. علشان تبدأ الحياة الحقيقية..
(ماليفيسنت) هي الشر والخير.. جوّه كل واحد فينا.. واللي من غيرهم مانبقاش بني آدميين أو بشر..
(ماليفيسنت) هي النفس البشرية.. في فجورها وتقواها.. اللي زي الليل والنهار..
هي إنك ما تيأسش من نفسك مهما عملت.. ومهما غلطت.. ومهما فشلت.. ومهما ضعفت..
هي إنك تبقى واثق ومتأكد إن جواك جمال وروعة وبراءة بالرغم من كل شيء..
هي الضلمة اللي جواك واللي بتخللي للنور معنى وقوام وجمال.. والغضب اللي بتحسه ساعات ومن غيره ما يكونش فيه سماح ولا عفو ولا رحمة.. والخطأ اللي تعمله وتكرره وبعد شوية تتعلم منه وتحوله لطاقة خير وأمل وعطاء..
(ماليفسينت) هي التناقض الخلّاق.. وألم الرؤية.. والقبول غير المشروط..
(ماليفيسنت) هي الكُره الإنساني في صورته الخام.. والحُب الحقيقي المُغيّر والشافي..
(ماليفيسينت).. هي أنت.. وأنا.. وكل البشر..
شوف..
اتألم..
أقبل..
سامح نفسك والآخرين..
ابدأ من جديد..
فالحب الحقيقي هو أنت..
والشفاء الحقيقي لن يأتي إلا من داخلك..
د. محمد طه