طيب..
مع احترامى ومحبتى للجميع.. هو مين قال ان فيه وظيفة أو مهنة أو شغلانة اسمها (داعية إسلامى).. بيعمل إيه يعنى؟ بيدعو الناس لإيه؟ بيدعوهم للإسلام؟ هو الإسلام محتاج حد يدعو الناس ليه؟ هو احنا فى ألاسكا وماسمعناش عن الإسلام؟ هو عمرالتاريخ الإسلامى كان فيه حاجة اسمها داعية؟ وهى دعوة الناس للإسلام بتبقى عن طريق الكلام الحلو المنمق؟ بتبقى على الشاشات والإعلانات وبيزنس المليارات؟ بتبقى باللبس الشيك والماكيير والمونتير والدوبلير والإضاءة والمكساج؟ واللا بتبقى عن طريق أفعال المسلمين، وتصرفاتهم، وعلاقاتهم بنفسهم وبغيرهم؟ هو الاسلام انتشر فى آسيا إزاى؟ مش عن طريق أخلاق ومعاملات التجارالمسلمين؟ هو أنا محتاج حد يطلع فى التليفزيون يقوللى إن الإسلام دين أصيل وعادل وسمح؟ واللا حد يورينى ده فى تعاملاته اليومية معايا فى الشارع والبيت والمدرسة والشغل.. مين هيؤثر فيا أكتر؟ مين هايوصلى الرسالة أعمق؟ مين هايخلينى أدور وأقرا وأبحث وأعرف.. وأقول.. آه.. هو ده الإسلام..
أمال حكاية (داعية إسلامى) دى جت منين؟ جيبناها منين؟ اخترعناها ليه وازاى؟
خليك معايا كده.. وبص جواك كويس.. وانت هاتعرف..
آه.. هاتعرف من جواك دلوقت..
—————————————————-
كتبت سابقاً عن (ولفريد بيون) Wilfred Bion العالم الانجليزى والمحلل النفسي الكبير اللى وصف فى كتابه الشهير Experiences in Groups and Other Works، تلات حاجات لو بقوا موجودين فى أى مجموعة من البشر قضوا عليها، وأفشلوها، وفككوها تماماً.. سماهم (بيون) الفروض الأساسية Basic Assumptions، واتكلمت بالتفصيل عن الفرض الثانى منهم اللى اسمه (الاقتران) Pairing.
المهم.. الفرض الأول منهم بقى اسمه (الاعتمادية) Dependency.. يعنى مجموعة البشر دول يختاروا حد منهم ويقرروا كده بكل بساطة إنهم يعتمدوا عليه.. يشوفوه على إنه يعرف كل حاجة، ويصدقوا إنه يقدر يعمل كل حاجة.. ياخدوا رأيه فى كل حركة.. ويرجعوله فى كل تفصيلة.. ومايعملوش أى حاجة بدون إذنه وموافقته..
بيتضاءلوا أمامه زى الأطفال الصغيرين.. وده يخليه يتعملق معاهم زى الأب الكبير.. أو الأم المرضعة.. أيون.. علاقة المجموعة بالشخص ده بتبقى علاقة رضاعة نفسية من الطراز الأول.. هو يفكر وهما لأ.. هو يجتهد وهما لأ.. هو يقرر وهما لأ..
وبيكون ورا الحكاية دى هدف خفى خبيث جداً.. وهو ان محدش من المجموعة دى يتحمل مسئولية نفسه ولا حياته ولا قرارته ولا أخطاءه.. ويتحمل صاحبنا كل شئ.. ويشيل الليلة كلها لوحده.. ماهو انت اللى فكرت.. وانت اللى قررت.. احنا مالنا بقى..
(بيون) بيقول إن أى مجموعة تتساب لميولها الاعتمادية هاتتحول شيئاً فشيئاً للجنون.. لأنهم بعد شوية هايضربوا كرسى فى الكلوب، ويقلبوا الترابيزة على الجميع.. وأولهم الشخص اللى اعتمدوا عليه.. وهنا.. يظهر على السطح شعور جارف جداً ناحية هذا الشخص.. اسمه (العنف).. و(الانتقام).. وكأنهم بيقولولوا: “مش انت خليتنا نعتمد عليك؟”.. “مش انت سيبتنا نرضع منك؟”.. طيب ادفع التمن بقى..
(بيون) كان بيتكلم عن المجموعات الصغيرة من الناس.. لكن أنا شايف بوضوح إن وصف (بيون) ممكن يعاد صياغته وتطبيقه على بعض المجتمعات.. ومنها مجتمعاتنا العربية الجميلة..
احنا مجتمعات اعتمادية.. احنا مش بنحب نفكر.. مش بنحب نبحث.. مش بنحب نجتهد.. بندور طول الوقت على وصى.. على حد نعتمد عليه.. حد يفكر بالنيابة عننا، ويبحث لنا، ويجتهد فى سبيلنا.. واحنا ناخد البضاعة على الجاهز.. ونستهلكها كما هى.. من أول الإبرة وحتى الصاروخ.. من أول فتاوى دخول الخلاء.. إلى فتاوى الزواج والطلاق.. من أول الاعتماد على الأب والأم لغاية ثلاثين وأربعين سنة، لغاية الاعتماد على الحكومة فى توفير فرصة عمل..
علشان كده احنا أساتذة فى تأليه الأشخاص.. وبارعين فى تقديسهم.. ومحترفين فى الرضاعة منهم.. وأول ما نكتشف إنهم بنى آدميين عاديين زينا.. ممكن يخطئوا ويصيبوا.. ممكن يتكلموا ويرجعوا فى كلامهم.. ضعفاء مش منزهين عن النقص.. ننقض عليهم بلا هوادة.. نسن عليهم الألسنة.. ونقتلهم بسخريتنا المعهودة التى تخفى وراءها أطناناً من العنف..
احنا صنعنا الدعاة علشان يفكرولنا ويقررولنا ويختارولنا.. صنعناهم علشان نسمع كلامهم ونمشى وراهم وتبقى العهدة عليهم.. علشان نستسهل ونستريح وهما يشيلوا الشيلة.. علشان نرضع منهم وعلى مسئوليتهم.. صنعناهم وعملنا منهم أصنام نعبدها من دون الله.. زى ما عملنا كتير، ومازلنا بنعمل، ولسه هانعمل..
احنا اخترعنا قول مأثور اسمه “علقّها في رقبة عالم.. تطلع منها سالم”..
هو صعب عليا إن أدور فى كتاب الفقه على معلومة؟ هو كتير أوى إنى أفتح كتاب الحديث وأقرا فيه بنفسي؟ هو ربنا مش أمرنى بالقراءة والتفكر والتدبر؟ هو أنا مش مكلف ومسئول؟ هو مش الاجتهاد عليه أجر؟ هو أنا محتاج وسيط فى علاقتى بربنا؟
طيب.. حد هايقول يعنى هو أنا مطلوب منى أقرا فى الطب لما يجيلى دور انفلونزا؟ مطلوب منى أقرا فى الهندسة لما أحب أصمم بيتى؟ مش ربنا قال: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” ؟ انت عايز مايبقاش فيه علماء دين؟
لا طبعاً مش ده القصد..
مش مطلوب منك تقرا فى الطب ولا الهندسة.. ومحتاجين يبقى فيه (علماء دين) ووجودهم مهم جداً.. ومطلوب منك تسأل أهل الذكر.. بس فى إيه؟ وامتى؟ لما تبذل المجهود وتدور وتبحث وتنسد بك الطرق.. لما تتعب وتعمل اللى عليك.. ربنا قال “إن كنتم لا تعلمون” يعنى ده الاستثناء مش القاعدة.. الدين ده علاقتك بربنا.. طريقك فى الحياة.. سكتك اللى بتمشيها كل يوم رايح جاى.. مش معقول تسأل أهل الذكر وعلماء الدين فى كل خطوة هاتخطيها.. وفى كل نفس هاتتنفسه.. أمال يعنى إيه “استفت قلبك ولو أفتوك”؟
بس طبعاً علشان ده يحصل.. محتاجين نتعلم نقرا.. ونتعلم نبحث.. ونتعلم ننقد.. ونتعلم نجتهد.. ونتعلم نتحمل المسئولية..
محتاجين نبقى أمة بتقرا وتبحث وتنقد وتجتهد وتتحمل المسئولية..
يااااااه كل ده.. لا وعلى إيه.. خلينا نسألهم وخلاص.. أهو برضه أسهل وأسرع.. وهما اللى هايتحاسبوا عن كلامهم قدام ربنا..
طبعاً الجانب الآخر من القصة هو انه زى ما احنا بندور على حد نعتمد عليه.. فيه اللى بيدورعلى حد يخليه معتمد عليه.. حد يقدريفرض عليه وصايته.. ماتفكرش.. أنا هافكرلك.. ماتجتهدش.. أنا هاجتهدلك.. ماتقراش.. أنا هاقرالك..
تانى يوم ما قابلت أستاذى البريطانى فى بعثتى للدكتوراة.. قاللى بص (بالانجليزى :)).. أى رأى هأقولهولك.. وأى نقاش هايحصل بينى وبينك.. لا يمثل إلا رأيي الشخصى.. مش لازم توافق عليه.. ومن حقك تقبله أو ترفضه.. بس بعد ما تدور وتقرا وتبحث.. وكان فى كل مرة أروح أسأله فيها سؤال يكون رده “ارجع للفصل الفلانى من كتاب كذا سنة كذا.. اقراه هاتلاقى الإجابة”.. أو “ماتيجى تعمل بحث علمى عن موضوع سؤالك، ونعرف الإجابة مع بعض”.. والراجل ده كان حرفياً هو “أهل الذكر” فى مجاله.. ويبدو والله أعلم إنه شاف فيا ريحة اعتمادية وقتها.. بعد ما كنت بأصر إنى أفتحله الباب كل مرة علشان يدخل المكتب قبلى.. ويقف هو مذهول مش فاهم أنا باعمل كده ليه!
مش كفاية تصنيم يعقبه خذلان؟
مش كفاية رضاعة بلا فطام؟
مش كفاية بقى؟
د. محمد طه