زى ما فيه صدمات نفسية بتصيب الأفراد.. فيه صدمات نفسية بتصيب المجتمعات.. الأفراد بيصيبهم الفقد والحوادث والأمراض.. والمجتمعات بتصيبها الحروب والمجاعات والأوبئة..
أمام الصدمات.. بنستخدم -كأفراد- وسائل دفاع نفسية تحمينا بقدر الإمكان من الشعور بالخوف أو الذنب أو الألم (النفسي).. أشهر هذه الوسائل الإسقاط (انت سبب فشلى بدلاُ من “انا قصرت وتسببت فى فشلى”).. والتمنطق (المريض مات لأن سنه كبير بدلاً من مات بسبب تأخرى فى مساعدته”).. وتكوين الفعل العكسي (أنا باحبك جدا.. فى الوقت اللى تعبر فيه الأفعال عن “أنا باكرهك جداً)..
المجتمعات كمان بتستخدم وسائل دفاع نفسية (مجتمعية) للتغلب على مخاوف وتهديدات وآلام صدماتها الكبرى..
إذا ماكانش فيه خطة عمل واضحة للتعامل مع الصدمة أو الأزمة يشارك فيها (كل فرد) و (كل مجموعة) فى هذا المجتمع.. يبقى هايحصل حاجة من تلات حاجات.. اكتشفهم بكل عبقرية عالم النفس البريطانى (من أصل هندى) الشهير (ولفريد بيون) فى ستينات القرن الماضى..
الحاجة الأولى.. هى إن المجتمع هيدور فوراً على حد يعتم عليه.. ويرمى عليه كل حموله.. وينتظر منه لعب دور المنقذ.. المجتمع هنا هايخلق بطل.. سوبرمان.. نصف إله أو إله يشعر جانبه بالضعف والنقصان.. باحثاً عن الحماية والنجاة. بيون سمى ده Basic Assumption Dependency أو (Ba D).
الحاجة التانية.. هى إن المجتمع هايؤمن جداً بنظرية المؤامرة، وهايصدق إن فيه أيادى خفية ماكرة وراء حدوث الصدمة أو الوباء.. وان كل الاحتمالات واردة.. غير ان المجتمع نفسه قد يكون مسئولاً عن تنامى الأزمة، أو تفشى الوباء. بيون سمى ده Basic Assumption Fight and Flight أو (Ba F).
الحاجة التالتة والأخيرة هى ان المجتمع يخلق أمل زائف من لا شئ.. وينتظر الخلاص من الهواء.. الناس يبقى عندها تفاؤل غير مبرر.. وانتشاء نفسي لا يعلم سببه أحد.. رغم ان مافيش حد منهم بيعمل أى حاجة مفيدة على أرض الواقع، ورغم انهم تخلوا عن مسئوليتهم الفردية فى مواجهة الأزمة.. وكأنهم فى انتظار حدوث معجزة.. أو انتظار نزول مسيح آخر الدهر بعد ما قالوا بينهم وبين نفسهم (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون. وبيون سمى ده Basic Assumption Pairing أو (Ba P).
التلات حاجات دول اسمهم Group Defenses.. يعنى وسائل دفاع نفسية جماعية.. بتستخدمها المجموعات/المجتمعات اللى بيتخلى أفرادها عن مسئوليتهم الشخصية فى بناء ورعاية وحماية مجتمعهم، ويرموا المسئولية على أب مُتخيَل، أوعلى مهدد خارجى، أو على مسيح منتظر.
هل احنا -كمجتمع- عملنا حاجة من الحاجات دى فى التعامل مع أزمة وباء كورونا؟
فى الحقيقة احنا مش عملنا واحدة واللا اتنين.. احنا عملناهم كلهم.. وعملنا أكتر منهم كمان.. خد عندك..
احنا أولا استخدمنا ربنا عز وجل شأنه علشان نمارس اعتماديتنا وتواكلنا (وليس توكلنا).. من اول (يا سيدى ربنا يسترها).. إلى (يا عم مافيش حذر يمنع قدر).. مروراً ب(الأعمار بيد الله) و (اللى مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين).. و (محدش بيموت ناقص عمر).. ورغم إن كل الكلام ده صحيح.. لكنه هنا بالفعل كلام حق أريد به باطل.. آدى يا عم بيون الDependency.
وثانياً.. شوف كام واحد فى مجتمعنا مصدق ومؤمن بما لا يدع مجالاً للشك ان فيروس كورونا هو تخليق وتصنيع أمريكى كجزء من حربها الاستراتيجية على الصين.. طب ده أمريكا نفسها فيها إصابات!! ده أوروبا وخاصة إيطاليا اتبهدلت!! ده الوضع خرج عن السيطرة خالص.. كل ده مش مشكلة.. المهم إنها مؤامرة.. ومش بعيد نكون احنا أحد المستهدفين بيها. ومش هاتكلم عن فيديو الانفلوينسر الشهيرة اللى مشاهداته كانت بالملايين، واللى فيه (الأمريكان بيبعدونا عن القرآن).. وآدى يا سيدى الFight and Flight.
وثالثاً.. بص كده فيه كام واحد من الناس حاطط لنفسه احتمال إنه يتصاب بالمرض؟ قليل جداً.. وكام واحد حاطط احتمال إنه مايتصابش؟ كتير جداً بل الأغلب.. طيب فيه أى مبرر واقعى لهذا الأمل الغريب؟ لا.. فيه أى سبب منطقى وسط كل هذا الرعب والفزع وسرعة الانتشار؟ برضه لأ.. جيبت منين هذه الثقة.. اشمعنا انت (كمجتمع وكأفراد) اللى هاتحصل معاك المعجزة والمرض يمشى كده وينحسر لوحده.. ولا حد يعرف.. كده قفلنا كمان ال Pairing.
هل احنا وقفنا لغاية هنا؟ لا طبعاً.. احنا لينا خصوصية تاريخية تخلينا نسبق العلم بشوية.. وعندنا فلتلت وطفرات مجتمعية تخلى اللى يسرى على العالم كله، ماينفعش يسرى علينا..
احنا بقى عملنا حاجة لم تخطر على بال ولفريد بيون مخترع ال Group Basic Assumptions نفسه.. حاجة اسمها Denial.. أو (الإنكار).. مش انكار على مستوى الفرد.. لا.. ده انكار على مستوى المجتمع.. انكار جمعى.. Social Denial.. احنا أنكرنا أصلاً حدوث الأزمة.. وتعاملنا معاها كأن لم تكن.. احنا تجاهلنا وجودها من أصله.. احنا عايشين كده وماشيين عاااااادى.. وأحسن من العادى كمان.. يستثنى من ذلك الحكومة المصرية.. وبعض المتعلمين مرتفعي الوعي. وللأسف ده نفس اللى حصل فى إيطاليا فى مراحل الوباء الأولى.
انزل كده وسط البلد، ومحافظاتها، ومراكزها، وقراها.. كام واحد بيغسل إيده أو يطهرها كل شوية؟ كام واحد بيحافظ على مسافة آمنة بينه وبين غيره؟ كام واحد بيتفادى السلام باليد والبوس والأحضان؟
بلاش كده..
شوفت منظر الناس اللى قاعدين فى القهوة وقافلين على نفسهم باب المحل بعد الساعة 7، لغاية ما الشرطة تعدى؟
طيب سمعت صوت الظابط وهو ماسك مكبر الصوت وبيطلب من الناس يروحوا بيوتهم ويقولهم أرجوكم علشان مصلحتكم؟
واللا أقولك.. شوفت منظر زحام منطقة العتبة والتكالب على عربات البيع والشراء المتنقلة من شوية؟
واللا شوفت مئات وآلاف الناس قاعدين وواقفين الكتف فى الكتف والقدم حذو القدم فى صلاة الجمعة النهاردة؟ فى مشهد غريب على شاشة الفضائيات اللى مكتوب أعلى جانبها الأيسر (خليك فى البيت_احمى نفسك_احمى بلدك).. ووزير الأوقاف بنفسه يصلى بالناس فى ماسبيرو اللى بيعمل فيه آلاف البشر.. ويبدأ خطبته ب(قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)؟ واللى بيعمل فى نفس مجلس الوزراء اللى صوته راح فى مناشدة الناس بالبعد عن التجمعات لحمايتهم وحماية أهاليهم وعدم إلقاءهم بأيدهم إلى التهلكة..
ونفس المشهد بحذافيره اتكرر فى العديد من الكنائس اللى شاف كهنتها ان النزول للصلاة أيام التفجيرات الإرهابية كان أخطر من دلوقت.. يبقى نتوكل على الله وننزل القداس..
كل ده كوم.. والجاى ده كوم تانى..
الجاى بقى هو إن حكاية الDenial أو الإنكار دى بتصنف إنها طريقة دفاع نفسية ذهانية Psychotic Defense Mechanism.. علشان اللى بيستخدمها فى الأساس هما مرضى الذهان (اللى بيطلق عليهم العامة مجانين).. تصور!! الطريقة دى بيستخدمها المجنون للانفصال التام عن الواقع بكل ألمه وخوفه ومسئولياته.. مش بس كده.. ده بيستخدمها كمان الأطفال.. لأنهم أضعف من تحمل نفس هذا الواقع المرير..
عرفت إحنا فين؟
عرفت إحنا مين؟
عرفت إحنا ليه؟
إحنا نتعامل مع أكثر المواقف خطورة.. بأكثر الطرق جنوناً..
ونواجه أصعب الأوقات.. متناسيين أبسط الحقائق..
وندعى التدين بطبعنا.. وكل علاقتنا بالإله والدين والكتب السماوية هى أننا نستخدمهم جميعاً لصالحنا..
إلى كل اللى بيطلب منى أكتب حاجة تطمن.. مافيش أى حاجة تطمن غير إن كل واحد – بمعنى كل واحد – فينا يؤمن ويصدق تماماً وكل التصديق أنه فى هذه اللحظة المرعبة من عمر البشرية، مش بس مسئول عن نفسه وبيته وأهله وأحبابه.. لأ.. هو مسئول عن العالم كله.. وده بجد مش هزار.. عدوى جديدة فى مصر.. ممكن تخرب الدنيا فى كندا.. زى ما عدوى واحدة فى الصين من كام أسبوع.. قفلت دلوقت مطارات العالم.. وعطلت مدارسه.. وفضت مطاعمه.. وأغلقت متاحفه.. وأخلت شوارعه ونواديه وبعض بيوته..
نقول كمان وأخيراً.. إذا لم يشارك (كل فرد) و (كل مجموعة) من هذا المجتمع، فى خطة الدولة (اللى واضح إنها مدروسة ومحترفة)، للتعامل مع هذه الأزمة، يبقى هايحصل حاجة من تلات حاجات..
واقروا المقال من الأول..
ونكمل كلامنا فى حلقة الثلاثاء الجاى من #الشيزلونج
د. محمــد طـــه
#خليك_فى_البيت