ناس كانوا في عزا الصبح.. راحوا وأدوا الواجب..
نفس الناس كانوا معزومين في فرح بالليل.. راحوا برضه وأدوا الواجب..
نسيبهم في حالهم؟
لا طبعاً..
مانحكمش عليهم؟
ده كلام!
مانشتمتش ونهين ونشكك في النوايا؟
إزاى!
بكل أسف.. كتير مننا لا هم له ولا شغل غير مراقبة أفعال الناس.. والتعليق على تصرفاتهم.. والتفتيش في نواياهم ودواخلهم..
مش بس كده.. ده بيؤدى بالتالى إلى إطلاق كم هائل من الأحكام ووابل رهيب من العنف اللفظى والتسفيه الأخلاقى..
الحكاية دى ليها تفسيرات نفسية على أكتر من مستوى..
على مستوى سطحى جداً.. احنا (وأقصد كتير مننا) بنعين أنفسنا -بشكل غريب جداً- حراس على الأخلاق.. أوصياء على عقول وقلوب وتصرفات الناس.. أولياء عليهم أكثر من أنفسهم.. ماسكين سيف الفضيلة في إيد.. وخنجر العقاب في الإيد التانية..
على مستوى أعمق شوية.. احنا بنحب دايماً نشوف مشهد واحد من الصورة.. لا نتحمل مشاهدة الصورة كاملة.. اما مشهد العزاء فقط.. أو مشهد الفرح فقط.. إما جانى فقط أو ضحية فقط.. مشاهدة الصورة كاملة بيعملنا مشكلة.. بيلخبطنا ويحيرنا.. بيملانا أسئلة وعلامات استفهام.. والتعامل مع ده بيحتاج درجة عالية من القبول والفهم والتحمل..
على مستوى أعمق كمان.. احنا لا نتحمل رؤية المتناقضات.. ولا نطيق الاختلاف.. ده ممكن يجننا حرفياً.. تحمل المتناقضات في نفسي أو غيرى.. وسعة الاختلاف في أنفسنا وفى الآخرين تحتاج درجة عالية جداً من النضج النفسي..
احنا كمان بنعشق تأطير الناس والمواقف والخبرات في إطار واحد.. إما كمالية مطلقة.. أو نقصان مطلق.. إما جيد/ممتاز/ مقدس.. أو سئ/منحط/منزوع القيمة.. آفة مجتمعاتنا هي التقديس (الأمثلة) Idealization.. اللى نعجب بيه أو نحبه أو نشكره أو نثنى على موقفه.. لازم يفضل طول الوقت عند توقعنا.. لازم مايخيبش ظننا.. لازم يعمل اللى احنا عاوزينه وشايفينه ومحتاجينه.. ولازم برضه مايعملش أي حاجة احنا مش عاوزينها أو مش موافقين عليها.. وإلا.. ناخده ونروح بيه الناحية التانية خالص.. ناحية التسفيه والتقليل ونزع القيمة Devaluation..
شوفوا اللى اتعمل في محمد صلاح وفى غيره الأيام اللى فاتت بخصوص موقفه المنتظر من الحرب الصهيونية الأخيرة على غزة.. قمة ال Devaluation.
وافتكروا اننا النهاردة طلعنا ببنى آدم (محترم جداً أكيد) السما وعملنا عليه ميمهات وصور وحكم ومواعظ علشان وقف جنب مراته عند موت والدها.. اللى هو تصرف طبيعى جداً وبيحصل بين الناس في أصعب المواقف رغم أي شيء.. قمة ال Idealization.
على مستوى أعمق أكتر، صعب علينا نحط نفسنا مكان الآخر.. ازاى فكر.. حسبها كده ليه.. إيه المعطيات اللى كانت قدامه.. إيه ظروفه.. إيه طريقة تفكيره ومشاعره.. احنا عاوزين الآخر يحط نفسه مكاننا طول الوقت.. لكننا ماينفعش نتحرك ناحيته خطوة واحدة..
وأعمق وأعمق.. فيه مجموعة أسئلة مهمة بيوجهها كل اللى بيحكم على حد ليه وهو مش واخد باله: انت ازاى بتدى نفسك الحق انك تفرح (أو تحزن أو تروح أو تيجي) مع انى مش مدى لنفسي الحق ده؟ انت ليه بتعمل اللى انت عاوزه رغم انى مش عارف أعمل اللى أنا عاوزه؟ انت ليه بتتصرف بحرية أنا نفسي مش عارف أتصرف بيها؟ ليه مش بتحس بالذنب والخوف والخناقة الداخلية زيي؟ ليه مش ساجن نفسك فى نفس السجن اللى أنا ساجن نفسي فيه؟
لسه.. لسه.. تحت ده كله فيه نرجسية مجتمعية رهيبة.. ونظرة فوقية لكل اللى مش بيعمل اللى أنا شايفه صح.. واستعلاء مدهش عن كل اللى مش مقتنع باللى أنا مقتنع بيه.. وتشكيك أى حد يقرب منى فى نفسه..
وعلى آخر وأعمق مستوياتنا النفسية.. كتير مننا جواه (فرعون) صغير بيقول طول الوقت: أنا ربكم الأعلى.. بنرفع نفسنا فوق الكرة الأرضية ونبص على الناس ونشاور عليهم من فوق.. بنحط نفسنا مكان ربنا بكل صفاقة.. نقيم البشر.. نحكم عليهم.. نخترق حدودهم ونتعدى خصوصيتهم ونفتش داخلهم.. دا احنا بندخلهم الجنة والنار..
ولا حول ولا قوة إلا بالله..
اللى بيحكم على حد.. هو فى الحقيقة حاكم على نفسه..
اللى بيتسرع فى الرفض وعدم القبول والحط من شأن حد.. هو فى الحقيقة رافض حتة فى نفسه.. فكره بيها هذا ال(حد)..
اللى بيشاور بصباعه فى اتجاه الآخر.. باقى الأصابع تشير ليه هو..
عدم الحكم عن الاخرين نضج..
انك تسيب الناس في حالها نمو نفسي..
انك تدع الخلق للخالق، هو عين العقل.
د. محمــد طــه