فى تاريخ أى مجتمع بعض الذكريات اللى بتشكل علامات فارقة.. حروب.. ثورات.. زلازل.. حوادث ضخمة مفجعة.. أوبئة.. انتصارات عظيمة.. لحظات فخر وعزة..

الذكريات دى بتكون جزء لا يتجزأ من الوعى الجمعى لهذا المجتمع.. واللى بيطلق عليه الSocial Unconscious (العقل الباطن المجتمعى)..

من ضمن أهم محتويات الوعى الجمعى هى (الصدمات النفسية المجتمعية).. اللى تهز أركان هذا المجتمع.. وتفتح عيونه فجأة.. وتثبت عندها عقارب ساعة التاريخ للحظات من فرط الذهول والصدمة..

الصدمات المجتمعية دى اسمها Collective Trauma.. وده مصطلح مهم جداً جداً دلوقت.. وبيشار إليه وبيتم استحضاره كتير فى سياقات دراسة العقل الباطن للمجتمعات (أيوه دلوقت بيتم دراسة العقل الباطن للمجتمعات)..

لما بيحصل صدمة نفسية قوية (لشخص).. بيكون قدامه عدة اختيارات على حسب قوة الصدمة.. وبدون الدخول فى تفاصيل كتير.. فإن أحد هذه الاختيارات إنه يرجع فى تطوره النفسى للخلف شوية شوية Progressive Teleological Regression.. يتسخدم طرق بدائية للتعامل مع الحياة.. لفهم المواقف.. للفعل.. ولردود الفعل..

الاحساس بالخطر والتهديد واللخبطة يخلوه أكثر اندفاعية.. وأقل عقلانية..

ده على مستوى الأفراد..

لما تحصل بقى صدمة نفسية قوية على مستوى المجتمعات.. بترجع هى كمان وتتقهقر للخلف فى تطورها النفسي (الجمعى) Societal Regression، وساعتها بيكون قدامها سكة من ثلاثة:

انها تتشل مكانها، وتحس بقلة الحيلة، وتنتظر حد يقوم معاها بدورالمنقذ، وساعتها تتبسط وترتاح وتنتشى.. بيسموا ده Pairing..

أو انها تتقسم بمنتهى الحدة نصفين مختلفين بدرجة شديدة، كل نصف منهم مش طايق التانى ويكاد يكون عكسه فى كل شئ.. بيسموا ده Fight and Flight..

أو انها المجتمع (بمعظم أفراده) يتخلوا عن مسئوليتهم تماماً، ويتحولوا إلى حالة من الاعتمادية التامة.. وده اسمه Dependency..

التلات حالات/مآلات دول اسمهم Basic Assumptions، وصفهم Wilfred Bion بخصوص المجموعات (مش المجتمعات)، بس مؤخراً بدأ سحبهم وتطبيقهم على المجتمعات بدرجات مختلفة..

حلو؟
لا مش حلو..
ليه مش حلو؟

لأنك لو أخدت بالك.. هاتلاقى ان التلات حالات دول هما الواقع المجتمعى اليومى بتاعنا أصلاً (كما أعتقد)..

يعنى مجتمعاتنا طول الوقت وفى معظم المواقف اما بتدور على منقذ يخاطر بنفسه ويشيل المسئولية،

أومقسومة نصين بيتخانقوا فى بعض خناقات عنيفة وشتايم حادة،

أو بتعيش فى اعتمادية مطلقة.. تتخلى فيها تماماً عن (عقلية الصانع).. وتغرق فى (عقلية الساحر) اللى مستنى المعجزات تحصل بدون ما اتحرك من مكانى ولا أبذل أى مجهود..

يعنى إحنا فى تراجع ونكوص تطورى نفسي أصلاً.. أمال لما تحصلنا صدمة مجتمعية حادة Collective Traumaهانروح فين؟

أقولك..

هانرجع لوار كمان شوية..
هو فيه ورا تانى؟
آه للأسف..

عارف إيه آخر حاجة ورا؟
آخر طبقات العقل الباطن من تحت..

الجنس.. والعدوان.. Sex and Aggression..

بص كده على رد فعل (قطاع لا بأس به من المجتمع) أمام حادث المرحومة (نيرة) الأخير.. هاتلاقيه تمحور حوالين الحاجتين دول.. جسمها.. والعدوان عليها وعلى كل من يشبهها وكل ما تمثله (بعد كلمات العزاء اللطيفة فى الأول).. وأكيد كلكم شوفتوا أمثلة من التعليقات والبوستات والآراء والفيديوهات اللى ماشافتش فى كل هذا الحدث الجليل الرهيب غير (جسد الأنثى)، بشكل فيه إما عدوان فعلى أو عدوان سلبى..

مش باقول طبعاً ان ده رد فعل كل المجتمع.. لكنى باقول ان ده العقل الباطن الجمعى بتاع شريحة كبيرة (أوعلى الأقل- مش قليلة) من المجتمع وصلت للدرجة دى..

عارف (القاع) بتاع الادمان..
أهو ده القاع بتاع التطور النفسي..

انك تفضل تتراجع للخلف فى النمو والوعى المجتمعى لغاية ما تقف عند أكثر المراحل بدائية.. الجنس.. والعنف (الفعلى/اللفظى/السلبى)..

انك تختزل صورة كبيرة مليانة دم.. فى رؤيتك وتفسيرك للون الإطار بتاعها، على إنه مثير جنسياً.. وتبقى عايز تكسره وتكسر الصورة كلها..

ان مناطق وشبكات مخك العصبية كلها تقف.. ومايشتغلش منها غير أكثرها بدائية وأقلها تطوراً..

الصدمة المجتمعية الحادة اللى حصلت بوفاة المرحومة (نيرة)، ورد الفعل المجتمعى عليها تحتاج وقفة.. ودراسة.. وتحليل جاد..

اللحظة دى ماينفعش تعدى بدون كامل الاستفدة منها..
هى لحظة فاصلة بجد..

محدش يقولى يا دكتور وبعدين؟ ايه الحل؟ قولنا نعمل إيه؟ زى ما بيتقال فى كتير من التعليقات على مقالاتى السابقة فى هذا الموضوع..
وهو مثال ثابت ومتكرر على نكوصنا واعتماديتنا وانتظارنا طول الوقت لحد يقولنا نعمل إيه..

الحل عند حضرتك.. انت الدليل والفاعل.. انت المسئول الوحيد.. لأنك انت وحدة بناء هذا المجتمع..
الحل انك تعرف وتصدق وتطبق مبادئ الإنسانية.. بس..
تصور!! بالبساطة دى..

الدين الحقيقي مليان انسانية.. ولا يصح اختزاله.. افهمه بس الفهم الصحيح..
الخبرات الحياتية الحقيقية بتعلم الانسانية.. اختبر واتعلم..
ادخل على جوجل.. ودور على مبادئ الانسانية.. واقرا واعرف وشوف..

بالمناسبة.. أثر الCollective Trauma بيمتد لعشرات الأجيال التالية.. بطرق كتير جداً.. أهمها الجينات.. آه والله.. آثار الصدمات المجتمعية القوية بتنتقل من جيل لجيل عبر الDNA.. وده مثبت بتجارب وأبحاث علمية مذهلة..

ومش عاوز أصدمك وأعقد الأمور أكتر.. وأقولك ان هذه الشريحة المجتمعية (مش كل المجتمع طبعاً) -ومن قبل الجريمة الأخيرة بكتير- راجعين وناكصين وقاعدين فى الحتة بتاعة الجنس والعدوان دى من زمان.. وان الجريمة دى أظهرت بس ما كان موجوداً..

ماهو مافيش تانى بعد كده.. أقصد (قبل) كده..
هانروح فين تانى طيب؟!

رحمة الله عليك يا ابنتى..
ربنا يجعلك لينا نور..
ويجعل حواليكى نور..

اللهم آمين..

د. محمــد طــه