فيه أنواع ودرجات من الأفكار..
ابتداء.. من الفكرة.. idea.. بمعنى الخاطرة الذهنية.. اللى بتخطرلك فى أى وقت..
يليها فى القوة انشغال البال أو ما يسمى (preoccupation).. ، يعنى ان عقلك يكون مركز على فكرة معينة، ومشغول بيها.. حد مشغول بحب حد.. حد مركز على ازاى يحوش فلوس.. حد عقله مليان بالخوف والقلق من المستقبل.. حد مهتم بجسمه ووزنه وشكله.. وهكذا.. حاجة محتلة تفكيرك..
الأقوى شوية من الpreoccupation اسمه (الوسواس obsession) وده بقى أفكار أو صور ذهنية ملحة ومتكررة بتسبب توتر شديد لصاحبها.. لدرجة تضطره أحياناً إنه يقوم بعمل فعل معين لتهدئة هذا التوترالشديد..
حد مثلا يسيطر عليه وسواس النضافة (يحس إنه مش نضيف بما فيه الكفاية، أو ان احتكاكه بحد معين أو حاجة معينة تصيبه بالاتساخ، فيكرر غسل إيده أو جسمه أو لبسه أو مكان نومه.. أو..).. فيه وسواس التأكد (يشك إنه عمل/ماعملش حاجة معينة فيراجعها ويعيدها ويتأكد منها مرة واتنين وثلاثة).. فيه وساوس دينية (تشكك صاحبها فى دينه وعقيدته ومقدساته).. وأنواع أخرى مختلفة من الوساوس..
اللى عنده وساوس بالشكل ده، بيبقى أسير لهذه الفكرة.. سجين ليها.. حياته كلها ممكن تتغير وتتأثر بناء عليها.. ممكن يتحول إلى انسان بائس ويائس وحزين بسببها.. الفكرة بتكون أقوى منه حرفياً.. تأمره فيطيعها.. يحاول مقاومتها يفشل.. يتخانق معاها تزيد.. ولا يملك أمامها فى الآخر إلا الضعف والاستسلام.. أو التوجه للعلاج..
الدرجة الأعلى فى سلم الأفكار والمعتقدات اسمها الأفكار المتضخمة (overvalued ideas- أعتقد فيه ترجمة أفضل).. ودى فكرة أو مجموعة أفكار غير صحيحة بشكل عام (رغم احتمالية صحة أمثلة بسيطة وعادية منها)، لكن أصحابها مصدقينها جداً جداً بشكل يكاد يكون مُسلّم بيه.. زى مثلاً ان كل الأغنياء فاسدين.. أو ان كل الغرب فاسق، أو ان الأدوية النفسية بتبوظ المخ، أو ان كل اللى حواليك بيحسدوك.. وهكذا.. وكتير من الأفكار دى بتكون مرتبطة بعوامل ثقافية..
نقدر نشوف أنواع الأفكار على انها خط متدرج (طيف spectrum).. بتبدأ من الأسهل والأهون والأكثر ليناً ومرونة.. وتنتهى بالأقوى والأصلب والأكثر جموداً وتحجراً..
آخر نقطة فى هذا الخط بقى اسمها ضلالات Delusions.. ودى فكرة خاطئة تماماً، وغير صحيحة بالمرة، صاحبها مقتنع بيها ومصدقها ومتمسك بيها بشكل لا يقبل المناقشة ولا الجدال ولا المراجعة.. مهما كانت هذه الفكرة غير منطقية، ومهما كان طريقة استنتاجه ووصوله ليها غير سليمة.. ومهما كانت كل الدلائل والاشارات حواليه بتقوله إنه غلط.
الضلالات Delusions عرض نفسي خطير ومش سهل.. بيُصنف تبع الأعراض الذهانية.. والتعامل معاه (من أجل تعتعته- بتعبير العبقرى د. يحي الرخاوى)، بيحتاج فهم جيد وتناول حكيم..
اللى عنده وساوس.. بيكون عارف ان أفكاره غير منطقية.. وسخيفة.. ودخيلة على عقله.. وبيحاول يقاومها بكل طاقته..
اللى عنده overvalued ideas.. بيكون مصدقها، وواثق فيها.. لكنه ممكن ياخد ويدى شوية، ويسمع ويناقش.. واحتمال يراجع نفسه فى صحتها..
انما اللى عنده ضلالات.. ده بيكون الموضوع بالنسبة له حقائق لا تقبل الشك ولا الجدال..
من أمثلة الضلالات ان حد يكون مصدق بما لا يدع مجالاً للشك إن مراته بتخونه.. ويقعد يربط حاجات ببعض بطريقة غير منطقية (الا بالنسبة له طبعاً)، ويستنتج استنتاجات تؤكد فكرته دون مقدمات مناسبة لها.. ويستدل بدلائل واهية وطرق غير قويمة.. يعنى بتبص من الشباك، معناها عنده انها مستنية تشوف حبيبها، بتشحن تليفونها، معناها انها هاتسهر تكلمه طول الليل.. بتغسل هدومها، يبقى كانت نجسة.. بيسموا ده ضلال الخيانة الزوجيةDelusion of Infedility..
فيه حد يبقى مصدق ومتأكد إنه متراقب، وانه متركب له كاميرات فى كل حتة، وان جيرانه بيدبروله مؤامرة.. بيسموا ده ضلال الاضطهاد Delusion of Persecution.
بنسمع كل شوية عن حد متصور إنه المهدى المنتظر، يطلع يعلن عن نفسه ويستعرض خيالاته وأوهامه.. وتستضيفه للأسف القنوات والمواقع وتعمل عليه تريند.. أهو ده فى غالب الأمر عنده نوع من الضلالات اسمه ضلال العظمة Delusion of Grandiosity.
فيه ضلالات كتيرة جداً.. بعضها تقدر تفهمه وتستوعبه، وبعضها غريب ومخالف لكل ما هو معروف أو معتاد.. فيه ضلالات جسدية.. فيه ضلالات عدمية.. فيه ضلال اسمه ضلال الحب Delusion of Love.. وفيه ضلال الإحساس بالذنب Delusion of Guilt.. وغيرهم وغيرهم..
تشخيص الضلالات يحتاج تأنى وخبرة ومهارة، ويلزمه وضع للمحتوى فى سياقه الثقافى والاجتماعي قبل الحكم عليه.. ومهم تحرى واستقصاء المنطق اللى وصل بيه صاحب هذا العرض إلى استنتاجه (فى بعض الأحيان مثلاً تكون فيه خيانة زوجية بالفعل- لكن برضه يتم تشخيص الحالة على إنها ضلالات، لأن المنطق اللى وصل بيه المريض لاستنتاجه منطق مرضي وغير سوى، وقد يكون ساهم فى حدوث الأمر من الأساس، بطريقة معقدة جداً)..
ناخد نفسنا.. ونرجع تانى..
تصور بقى ان أصل كل الهيصة دى.. فكرة.. فكرة قوية جداً.. أقوى من صاحبها نفسه..
وتصور كمان.. ان وجود الضلالات عند أصحابها بيؤدي ليهم وظيفة مهمة.. وظيفة مهمة جداً.. وعلشان كده هما متمسكين بيها، ولا يقبلوا، بل لا يتحملوا مجرد النقاش حولها..
عارف إيه وظيفة الضلالات؟
عارف هى بتحمى صاحبها من إيه؟
ركز كده كويس فى اللى جاى.. لأن كل اللى فات، كان تمهيد ليه..
* * *
تقدر تعرف وظيفة حاجة، بإنك تشوف صاحبها من غيرها هايبقى عامل ازاى.. هات حد متعود يقضى كل مشاويره بالعربية، وخدها منه يومين.. هايحس إنه مشلول.. عاجز.. مش عارف يتحرك.. كل حاجة بعيدة.. كل خطوة مجهدة.. كل مشوار تقيل.. حد متعود مراته تطبخله وتجهزله الأكل وتعتنى بتفاصيله.. شوف لو مراته غابت عنه أسبوع يبقى عامل ازاى.. طب لو أسبوعين؟
يا ترى الضلالات بتعمل إيه؟ بتفيد إيه؟ بتمنع إيه؟
الضلالات يا سيدى الفاضل، هى آخر حصن، بيلجأ ليه العقل قبل التفسخ النفسي التام..
هى الجدار العازل الصلب، اللى بيحاوط النفس، ويكتفها، ويربط أوصالها ببعضها.. خوفاً من الانهيار..
هى المسامير الأخيرة الصامدة.. فى نعش مخ.. أوشك على التحلل..
الضلالات تحمى صاحبها من الجنون التام..
وتمنعه من التفكك الكامل..
وتحول بينه وبين تقطع أوصاله بنفسه، وبالناس، وبالحياة..
علشان كده.. صاحب الأفكار الضلالية بيتمسك بيها وكأنها روحه، وبيدافع عنها وكأنها حياته، ولا يقبل مناقشتها أو تحليلها أو خضوعها للمنطق على الإطلاق..
ضلالاته هى منطقه الوحيد.. وجنونه هو عين عقله..
شايف؟!
فكرة..
مجرد فكرة..
تخيل أن تكون فكرة بهذه القوة.. وهذه الشراسة.. وهذه السطوة..
أن تكون فكرة، أقوى من العقل الذى صنعها..
أن تكون فكرة، أعتى وأشرس من صاحبها..
أن تسطو فكرة على عقل صانعها..
وأن تخطف نفسه وروحه، وجسده أحياناً..
شايف احنا ضعفاء قد إيه؟
احنا أضعف من فكرة..
***
بس كده؟
خلاص كده يا دكتور؟
كاتب لنا درس فى أحد الأعراض النفسية؟
لا يا سيدى..
مش بس كده..
ومش خلاص..
بص كده فى عقلك.. وشوف.. واسأل نفسك:
إيه الفكرة؟ إيه نوعها؟ مدى قوتها؟ إيه معناها؟ وإيه وظيفتها؟
وعلى فكرة..
فيه أربع نقاط تانيين على خط الأفكار ده: الاعتقاد Belief.. واليقين Certainty.. والإيمان Faith.. والحقيقية Fact..
شهية عقلك اتفتحت؟
كفاية كده النهاردة..د. محمـــد طـــه