أكثر ما يثير الدهشة فى مسلسل (الهرشة السابعة) حتى الآن -بالنسبة لى- مش أحداث المسلسل، وواقعيته الشديدة، وعبقريته فى عرض وتناول الصراعات العادية اليومية فى العلاقات.. لأ.. المدهش بجد هو ردود أفعال كتير من المشاهدين على الزوجة (نادين)، ورؤيتهم ليها على إنها (توكسيك) و (أوفر).. و (أنانية).. وازاى جوزها يعتذر لها كل شوية.. وليه تضغط عليه بالشكل ده.. وهكذا..
المدهش أكتر بقى.. ان معظم اللى شايفين ده بنات وستات..
نادين بنت زى بنات كتير جداً.. نشأت فى أسرة فيها خلافات شديدة ومتصاعدة بين الأب والأم.. أسرة كانت دايماً على حافة الانهيار والهدم.. بنت مليانة insecurities زى معظم البنات.. خوف من الفقد.. خوف من الفشل.. خوف حتى من النجاح..
وأمام كل هذا الخوف، وهذا الكم من الinsecurities.. بتلجأ نادين- زيها برضه زى كتير من البنات- للوسيلة الدفاعية الأسهل والأكثر جلباً للأمان (الموقت فى كل مرة).. وهى محاولة الكونترول (بدرجات مختلفة من بنت لبنت).. اهتمام زايد حبتين بالنضافة، يظهر من أول مشهد وهى بتغسل أسنانها فى الحمام، وتلاقى مناديل على الحوض، فتنزعج -من غير ما تظهر ده- وترميهم فى السلة، ولما جالهم أهلهم على الفطار وطلبت من جوزها انه يتأكد كويس انه مافيش مناديل ورق ملقاة أو متبعثرة على الأرض فى البيت، ووقت الكورونا واهتمام الشديد بالتعقيم والتطهير وعدم اللمس و… و……
نادين بتخاف بسرعة.. بتنهار بسرعة.. بتفقد أعصابها بسرعة..
امرأة تعيش دائماً على الحافة..
ويزيد كل ده طبعاً لما ربنا يرزقهم بطفلين توأم.. واللى اتجوزت وحملت وخلفت.. تعرف يعنى إيه ده..
تعرف يعنى إيه بنى آدمة يتم انتهاكها نفسياً وعاطفياً وجسدياً كل دقيقة.. وهى صاحية وهى نايمة..
تعرف يعنى إيه حد كان عايش فى سلام وحب وأحلام وردية لمدة 9 شهور.. يفاجئ بزلازل وبراكين وحروب فى يوم وليلة، ولا يبدو إن ليها نهاية..
تعرف يعنى إيه ان وجودها يتلغى لصالح حد تانى.. ورغباتها واحتياجاتها الأساسية تتنازل عنها بالرضا وبالغصب وبالذوق وبالعافية لغاية ما تبقى على وشك أن تفقد نفسها أو عقلها أحياناً.. هى فعلاً بتبقى مش عارفة تاكل.. ولا تشرب.. ولا تدخل الحمام.. ولا تستحمى.. ولا تنام..
تعرف يعنى إيه تبص لأطفالها وهى بتحضنهم أو بترضعهم، وهى من جواها مش عارفة هى بتحبهم والا بتكرههم.. بتحب نفسها والا بتكرهها..
على فكرة بعض نظريات التحليل النفسي بتشوف الخلفة وتربية الأطفال -خاصة فى شهورهم وسنينهم الأولى- نوع من المازوخية.. يعنى حد بيقرر يعذب نفسه بنفسه..
جوز نادين رجل شرقى يعيش صراع حقيقي بين رغبته فى الحفاظ على مساحته وفردانيته من ناحية، وانه يكون زوج جيد وأب جيد من ناحية أخرى..
بيبذل مجهود واضح.. وبيحاول بكل اللى يقدر عليه إنه يحتوى مراته.. ويستوعب لخبطة مشاعرها.. ويراجع نفسه مع كل خلاف.. ويعتذر لو لزم الأمر..
مثال جيد -حتى الآن على الأقل- للراجل اللى بيحاول يتحمل مسئولية بيته وزوجته وأولاده بجد..
اتنين متجوزين.. داخل كل منهم صراعات نفسية انسانية.. وبيحاولوا يتعاملوا مع ده.. كل واحد بطريقته.. اللى التانى بيصطدم بيها أحياناً.. ويستوعبها أحياناً.. ومايعرفش يعمل إيه أحياناً..
اتنين بيحبوا بعض.. ويتخانقوا مع بعض.. ويغضبوا من بعض.. ويصالحوا بعض.. ويحضنوا بعض.. فى عز ما هم تعبانين من بعض..
هى العلاقات كده يا جماعة.. دى حقيقة العلاقات من الداخل.. لخبطة وفك وتركيب واعادة ترتيب ثم لخبطة تانى- طول الوقت.. مش لازم يكون فيه جانى وفيه ضحية.. مش ضرورى يكون فيه استقطاب وتقطيع ومجازر.. مافيش أى مشكلة ولا مانع من الصدام والصراع الإنسانى..
ده اللى بيختبر العلاقات.. والتعامل معاه هو اللى ممكن يكبر أطرافها..
وتجاوز ده هو اللى بيخلي الناس تنضج وتوعى وتلاقى للحياة معنى وهدف..
ردود الأفعال على مشهد زوج بيستوعب غضب زوجته.. واستغرابنا ليه، وانه كده كتير بقى.. بيقول عن مفهومنا للزواج، وعن نماذج الزواج اللى بنعيشها ونعرفها..
استنكار لحظات الضعف.. والغضب.. والتوتر.. والاحتياج بتاعة زوجة وأم، تجتاحها شلالات من المشاعر، وتتناوب عليها فيضانات من التقلبات اليومية،
وكون الاستنكار ده جاى أكتر من ستات وبنات، بيقول برضه عن رؤية البنات لنفسها، وحقوقها، واستحقاقها، ومدى استكتارها ده على نفسها..
ياختى ازاى جوزها مستحملها؟
ليه بيعتذرلها؟
هى نكدية كده ليه؟
ليه عمالة تضغط عليه بالشكل ده؟ ليه مش بتدعمه؟
ليه يحضنها كل شوية كده؟
للدرجة دى يا جماعة شايفين احتواء رجل لمراته فى لحظات انفجارها غريب وغير مستساغ؟
للدرجة دى مش شايفين نفسكم تستحقوا التعاطف وتستاهلوا التفهم ومن حقكم الطمأنة؟
للدرجة دى مش مصدقين ان ده حقكم؟
حقكم يتحس بيكم، وتتقدروا، وتتساعدوا، وتشتغلوا، وتنجحوا، وشركاء حياتكم يساعدوكم ويقفوا جنبكم..
واللى شايف كده هما البنات؟!
وده بالرغم من انه هو كمان احيانا بيتجاهل احتياجاتها ويقصر معاها- بدرجة ما.. يتأخر بره البيت، يستنى لما هى تطلب علشان يساعد، ينشغل عنها بنفسه وعالمه الخاص..
وبالرغم من انه منعها من الشغل اللى بتحبه ولقت نفسها فيه، من غير ما يحاول يساعدها فى ايجاد حلول واقعية تناسبهم هما الاتنين..
وبالرغم من انه بدأ يميل لواحدة غيرها (للمفارقة بتشتغل ومحققة نفسها)، لدرجة انه يتقال: “أحسن، مراته تستاهل يخونها”..
معقول؟!
طبعاً أسهل وأقرب تفسير هو ان الinsecurities – المخاوف والاهتزازات واللخبطة اللى عند نادين صحت وحركت الinsecurities اللى عند بنات وستات كتير، واللى هما رافضينها فى نفسهم، فرفضوها عند نادين.. ورفضوا نادين نفسها.. وبقوا مش طايقينها ومش مستحملينها..
أوقات كتير بيستفزنا فى الآخرين ما يشبهنا.. ويغيظنا فيهم ما يذكرنا بأنفسنا..
لكنى شايف فى الحقيقة إن ده مستوى واحد من التفسير.. وان الموضوع أعمق وأعقد من كده..
بس بالراحة كده على نفسنا وعلى الناس.. البنى آدمين مش خطوط مستقيمة، أو أشكال مسطحة ثنائية أو حتى ثلاثية الأبعاد.. العلاقات مش جدول ضرب.. مش معادلات كيميائية فى أنابيب اختبار..
الأسهل دائما هو التصنيف والقولبة والتسمية والعنونة..
والأصعب طبعاً.. هو انك تشوف حد كله على بعضه.. بكل مستوياته وأبعاده..
عبقرية المسلسل، وعبقرية كاتبته المبدعة مريم نعوم، من وجهة نظرى، انها مش بتخليك تتعاطف مع حد على حساب التانى.. بتعرض جوانب ومستويات الشخصيات بشكل انسانى حقيقي.. كل حد جاى منين.. وبيعمل ده ليه.. وورا اللى بيعمله إيه.. مش بتحط حد فى دور الضحية.. وحد فى دور الجانى.. بتنزل بيك للشارع وتدخل بيك جوه البيوت..
مافيش هنا بطل وعصابة وكنز.. مافيش انتصار وهزيمة.. مافيش خير مطلق وشر مطلق.. فيه بنى آدميين عاديين فى حلبة الحياة اليومية.. كل واحد فيهم جاى بشيلته.. وكل واحد وشطارته.. وكل علاقة وشطارة أطرافها..
وكل حد فينا جواه البطل.. وجواه العصابة.. وجواه الكنز..
هل وارد ان كل ده يتغير؟ وارد طبعاً.. احنا لسه فى أول الأحداث.. ومش عارف هاتوصل لإيه..
هل ممكن العلاقات دى تفشل وتنتهى وتتملى جراح وآلام؟ طبعاً ممكن.. وده جزء من مخاطرة أى علاقة..
هل فيه احتمال إنه تظهر فى الأمور أمور.. وتكون فيه مستويات أخرى للرؤية وللتحليل؟ احتمال جداً..
لكن على الأقل.. وحتى الآن..
دى العلاقات.. تم فتح بطنها..
وده الارتباط.. بكل ما فيه من احتمالات ومشاكل ومقامرات..
وده الجواز.. بمخاوفه.. وصعوباته.. وظروف أطرافه..
وكل ده لا ينجح إلا بجهد شديد، ومحاولات مضنية، وإصرار وتحدى دائم ومستمر.. وبشكل يومى..
أيوه..
نجاح أى علاقة.. هو قرار يتجدد كل يوم..
قرار.. يتجدد..
كل يوم..
د. محمـد طـه