على.. شاب فقد أبوه من قريب.. كان ليه معاه صور وذكريات حلوة.. وأمه -لسبب ما- سابته ومشيت وهو صغير.. وحتى لما كانت موجودة ماكنتش بتحس هو محتاج إيه.. مجرد بس تديله فلوس يجيب اللى هو عاوزه..

على.. وحيد.. انطوائى.. حزين.. مكتئب.. منعزل.. وبيفكر فى الانتحار..

على انسان موجوع من الفقد..

ابراهيم.. رجل كبير السن.. توفيت زوجته من فترة.. أصحابه وأصدقاؤه كل واحد منهم راح فى حتة.. اللى مات.. واللى سافر.. واللى مشغول بحياته وظروفه.. وبنته سافرت تدرس بره..

ابراهيم.. وحيد.. قلبه تعب.. مش بس بالمعنى النفسي.. هو أصبح مريض بالقلب..

ابراهيم خايف من الفقد..

الطريقة اللى قرر (على) يستخدمها للتعامل مع (وجعه من الفقد) كانت انه يبعد عن الناس.. يقطع كل الأواصر والروابط بينه وبينهم.. لدرجة العداء أحياناً.. بينه وبين زمايله.. وقرايبه.. وجيرانه.. هو حتى قطع علاقته بذكرياته.. وطفولته.. ونسيهم ونسي تفاصيلهم..

بالمناسبة.. أول حاجة بيعملها اللى ناوى ينهى علاقته بالحياة.. هى إنه ينهى علاقته بالناس.. والمشاعر.. والذكريات..

أما الطريقة اللى قرر (ابراهيم) يستخدمها للتعامل مع (خوفه من الفقد) كانت انه يخلق عالم خاص بيه.. يعمل فيه أصحاب من صنع خياله.. وأحداث من وحي عقله.. يمثل إنه بيخرج معاهم.. ويسافر.. وياكل ويشرب.. ابراهيم قرر يعيش فى فقاعة صغيرة على قده.. مافيهاش حد غيره.. ابراهيم حتى مانع بنته انها تيجى من السفر وتزوره أو تعيش معاه.. خانق احتياجه انه يحضنها جواه.. لأنه خايف انها تتألم لفقده لما يسيبها ويموت بعد شوية..

على فكرة.. برضه أول حاجة بيعملها اللى ناوى يتجنن.. هى إنه ينهى علاقته بالناس.. والمشاعر.. والذكريات..

على.. قابل ابراهيم..

ورغم مقاومة (على) لعمل علاقة مع انسان آخر.. وخوف (ابراهيم) من انه يعمل علاقة مع أى حد غير نفسه.. إلا ان احتياجهم الداخلى العميق للحياة وللناس وللونس غلبهم هما الاتنين..

واتلم (الموجوع من الفقد).. على (الخايف من الفقد)..

*
أول فقد بنختبره فى حياتنا.. هو فقد العالم الآمن تماماً.. المثالى جداً.. اللى كنا عايشين فيه داخل الرحم.. تسع شهور كاملة من اللذة التامة والغرق حتى الثمالة فى بحر السائل الأمنيوسي (سائل الرحم).. حيث الأكل والشرب والأكسجين والدم بيجولنا لغاية عندنا.. بدون أى مجهود.. وحيث الدفئ التام.. والراحة المطلقة.. جنة بمعنى الكلمة..

الفقد التانى هو وقت الفطام.. بمنتهى الألم والفراق..

ثم فقد وقت الطفولة.. وذاك الطفل الذى كنت عليه..

ثم سلسة لا تنتهى من الفقد والفراق والوداع.. تتخللها بعض اللحظات الحلوة.. والناس الطيبة.. والصحبة.. والونس..

*
(على) لقى عند (ابراهيم) اللى هو محتاجه.. حد قريب من غير ما يخترقه ولا يعدى حدوده النفسية.. حد بيسمع ويتفهم من غير ما يحكم.. حد بيصاحب ويلعب وفى نفس الوقت بيرشد ويدل..

(على) لقى عند (ابراهيم) معنى جديد للحياة.. ممكن يكمل علشانه..

و(ابراهيم) لقى كمان عند (على) اللى هو محتاجه.. حد ساكن لكنه مليان من جواه قدرة على الحركة.. بعيد لكنه نفسه يقرب من نفسه ومن الآخرين..

(ابراهيم) لقى عند (على) أمل جديد فى الحياة.. ممكن برضه يكمل علشانه..

أنا شوفت (على) و(ابراهيم) وجهين لعملة واحدة.. أحدهما هو ظل الآخر تماماً.. وكأن ده هو النسخة (النفسية) الشابة من ده.. وده هو نسخة (الشيخوخة) من ده.. قبل ما يقابلوا بعض..

احنا محتاجين ناس فى حياتنا..
محتاجين ونس..
محتاجين -رغم وحدتنا الوجودية العميقة- حد يساعدنا اننا نلاقى فى الحياة أمل.. ونلاقى للحياة معنى..

وما بين وجع الفقد.. والخوف من الفقد..
احنا نملك طول الوقت اننا نهون على بعض..
ولو جزء من الطريق..

هو فى الحقيقة.. احنا لا نملك إلا اننا نهون على بعض جزء من الطريق..

د. محمـد طـه