فيه فرق كبير جداً بين إنى أكون مستقل.. وإنى أكون مستغنى..
مهم إنك تكون مستقل.. حاسس بوجودك، وبقيمتك، وبكيانك.. بس ده مش معناه إن وجودك يبقى زى الزرعة الشيطاني، اللى طالعة فى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء.. مش معناه إنك تستغنى عن وجود الآخرين فى حياتك..
مهم إنك تحط لنفسك حدود.. وتحمى حدودك ضد أى أذى نفسي أو معنوى أو عاطفى (أو بدنى طبعاً).. لكن ده يختلف تماماً عن إنك تعيش لوحدك فى جزيرة منعزلة منفصلة تماماً عما حولها..
أنا باشجع الاستقلال النفسي والمادى والمعنوى.. لكنى أرفض تماماً الاستغناء والإلغاء..
الاستقلال هو إنك تحس بنفسك وبأهميتك وبنجاحك فى شغلك وفى حياتك.. لكن الاستغناء هو إن ده يخليك تنسى إنك متجوز ومسئول عن علاقتك بمراتك، فتبعد عنها، وماتهتمش بيها، وبعد شوية تخونها..
الاستقلال هو إنه من حقك يكون ليك رأى مختلف عن رأى والدك ووالدتك.. وإنك تصر على رأيك.. وتنفذه لو حبيت.. لكن الاستغناء هو إنك تبطل تسألهم عن رأيهم.. وتعتبر وجودهم زى عدمه.. وتلغيهم من حساباتك إلى الأبد..
الاستقلال هو انك تشتغلى وتقبضى وتصرفى على نفسك ويبقى ليكى ميزانية منفصلة بيكى.. انما الاستغناء هو انك تحرمى جوزك من وقتك واهتمامك ومشاعرك.. لغاية ما علاقتكم تفتر.. وتموت..
فيه احتياجات نفسية جوانا نحو الآخرين.. احتياجات من الناس.. احتياجات من الأب والأم والزوج والزوجة والأصحاب والجيران وزملاء العمل.. فيه حتى احتياجات من المجتمع.. ماينفعش ندفن احتياجاتنا من اللى حوالينا ونعيش فى فقاعة مغلقة هائمة على وجهها.. علشان الاحتياجات دى هاتقب وهاتطلع وهاتتدور على أى طريقة تعبر عن نفسها بيها.. ولو حتى سرقة..
أيون..
المستغنى يبحث بشكل واعى أو غير واعى عن بديل يسرق منه ما نقص من احتياجاته، ويقوم (بتلبيسه) الدور المفقود فى حياته..
اللى بتستغنى عن أبوها.. بتفضل تدور على أب.. فى حضن أى راجل..
واللى بيستغنى عن مراته.. بيعيش تحت رحمة ولو نظرة واحدة من طفلة صغيرة..
واللى بيستغنى عن البشر وعن الناس.. بيصاحب القطط والكلاب والعصافير..
الاستغناء هو الغاء تام لوجود الآخر.. انما الاستقلال لا ينفى وجود الآخر..
الاستقلال قد يجعل من الآخر خصماً.. لكنه موجود.. انما الاستغناء.. هو حكم بالنفى.. والعزل.. والتخلى..
الاستغناء عن الآخر معناه إنه فقدت فيه الأمل.. إنك رميت طوبته.. إنك أطلقت عليه الرصاصة الأخيرة القاتلة..
أما الاستقلال عن الآخر فمعناه إنه ما زال فيه آخر.. فيه شد وجذب.. فيه احتمال.. فيه أمل.. فيه محاولات دءوبة رغم الصعوبة..
الاستغناء مافيهوش علاقة.. لكن الاستقلال هو أحد صور العلاقة.. ولو كانت حتى علاقة كره..
ينفع تستقل عن أبوك وأمك.. لكن ماينفعش تستغنى عنهم.. ماينفعش تفقد فيهم الأمل.. مهما كان موقفك منهم..
ينفع طبعاً تستقلى عن جوزك.. لكن فى اللحظة اللى هاتحسى فيها انك مستغنية عنه.. يبقى تطلقى أحسن.. بدل ما تظلميه وتظلمى نفسك وأولادك معاه بممارسة هذا الاستغناء بشكل يومى مؤلم لكل الأطراف..
ينفع تستقل عن الناس.. لكن ماينفعش تستغنى عن وجود ناس فى حياتك.. عن النظر فى عيونهم.. عن مبادلتهم بعض الكلام والحديث.. عن الهزار والنكت والحب والكره والغضب والشكر والامتنان..
الاستغناء هو الاختيار الأخير.. والأخير فقط.. حينما تفشل كل الحلول والمحاولات..
فيه شعرة رفيعة جداً بين الاستقلال والاستغناء..
لكنها حادة كالسيف..
احذرها جيداً..
لأنها..
تجرح.. من الناحيتين..
د. محمد طه